من أكبر الأدلة على صدق النبي صلى الله عليه وسلم في دعوته هي أُميَّته؛ حيث جاء وهو أمي لا يقرأ ولا يكتب بهذا الكتاب المعجز القرآن الكريم، هذا الكتاب الذي أعجز البلغاء بفصاحته، وأعيا الفصحاء ببلاغته، كما حوى هذا الكتاب كل ما يحتاجه الإنسان لدينه ودنياه، ففيه العقائد والعبادات، وفيه الأحكام والتشريعات، وفيه الأدب والأخلاق، وفيه المواعظ والقصص، وفيه الجدل والحجاج، إلى غير ذلك مما لا يتناهى منه العجب، ولا ينقطع منه الدهش، كل ذلك أتى على يد نبي أمي لم يقرأ يومًا حرفًا، ولم يخط بيمينه يومًا كلمة، لذلك كانت أميته صلى الله عليه وسلم هي موضع عظمته، ودليل صدقه، وآية من الآيات الدالة على نبوته.
لذلك كان من أكبر ما وجَّه المشككون إليه سهامهم، وسدد إليه الملحدون رميهم هي أميته، فحاولوا إنكارها بشتى السبل، وراموا نفيها بكل الحيل، حتى يصح لهم زعمهم بأنه نقل هذا القرآن من الكتب السابقة، وأنه كان على علم بما فيها، فقد كان يقرأها بلسانه، وينسخها بيده، لذلك أخذوا يتأوَّلون الآيات الصريحة التي تدل على أميته، وينكرون السنة الصحيحة التي تثبت هذه الأمية بما لا يدع مجالا للشك، وكل همهم من وراء ذلك هو هدم أكبر دليل على صدقه صلى الله عليه وسلم.
قال الله سبحانه وتعالى: ﴿ وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ ﴾ [العنكبوت: 48].
فهذه الآية واضحة تمام الوضوح، فالله عز وجل يقول له: إنك يا محمد صلى الله عليه وسلم قبل أن ينزل عليك القرآن لم تكن عندك المقدرة أن تقرأ كتابًا، أو تكتبه بيدك، ولو كانت عندك هذه المقدرة، لتشكك المتشككون في القرآن الكريم، وقالوا: إنه من تأليف محمد صلى الله عليه وسلم؛ حيث نقله من الكتب السابقة التي قرأها واطلع عليها، سبحان الله وقد وقع بالفعل ما توقعه القرآن الكريم؛ حيث كثر الطعن في القرآن الكريم، وأكثر ما وُجِّه إليه من طعن أنه منقول من كتب الأولين، إن هذه الآية في حد ذاتها معجزة كبيرة للنبي صلى الله عليه وسلم؛ حيث وقع بالفعل ما ذكره القرآن الكريم، وسيظل يقع طالَما كان هناك معادون للقرآن متشككون فيه، والرد عليهم هو نفسه ما ذكره القرآن، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم كان أميًّا، فلم يقرأ في حياته كتابًا، ولم يخطه بيمينه، فكيف إذًا يأتي بهذا القرآن الكريم؟
قال تعالى: ﴿ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ ﴾ [الأعراف: 157].
فالآية واضحة تمام الوضوح، ظاهرة كمال الظهور أنه كان نبيًّا أميًّا، وتكاد تطبق مجامع اللغة وعلماء اللغة على أن (الأمي) هو الذي لا يقرأ ولا يكتب.
فابن قتيبة قد نسَب كلمة أمي إلى أمة العرب التي لم تكن تقرأ أو تكتب، فقال: (قيل لمن لا يكتب أمي؛ لأنه نسب إلى أمة العرب؛ أي جماعتها، ولم يكن من يكتب من العرب أي جماعتها، ولم يكن من يكتب من العرب إلا قليل ...)
ويقول ابن منظور: "والأُمِّيّ: الَّذِي لَا يَكْتُبُ، قَالَ الزَّجَّاجُ: الأُمِّيُّ الَّذِي عَلَى خِلْقَة الأُمَّةِ لَمْ يَتَعَلَّم الكِتاب فَهُوَ عَلَى جِبِلَّتِه، وَفِي التَّنْزِيلِ الْعَزِيزِ: وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلَّا أَمانِيَ؛ قَالَ أَبو إِسْحَاقَ: مَعْنَى الأُمِّيّ المَنْسُوب إِلَى مَا عَلَيْهِ جَبَلَتْه أُمُّه أَيْ لَا يَكتُبُ، فَهُوَ فِي أَنه لَا يَكتُب أُمِّيٌّ، لأَن الكِتابة هِيَ مُكْتسَبَةٌ فكأَنه نُسِب إِلَى مَا يُولد عَلَيْهِ أَيْ عَلَى مَا وَلَدَته أُمُّهُ عَلَيْهِ، وَكَانَتِ الكُتَّاب فِي الْعَرَبِ مِنْ أَهل الطَّائِفِ تَعَلَّموها مِنْ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الحِيرة، وأَخذها أَهل الْحِيرَةِ عَنْ أَهل الأَنْبار. وَفِي الْحَدِيثِ: إنَّا أُمَّةٌ أُمِّيَّةٌ لَا نَكْتُب وَلَا نَحْسُب؛ أَراد أَنهم عَلَى أَصل وِلَادَةِ أُمِّهم لَمْ يَتَعَلَّموا الكِتابة والحِساب، فَهُمْ عَلَى جِبِلَّتِهم الأُولى، وَفِي الْحَدِيثِ: بُعِثتُ إِلَى أُمَّةٍ أُمِّيَّة؛ قِيلَ لِلْعَرَبِ الأُمِّيُّون لأَن الكِتابة كَانَتْ فِيهِمْ عَزِيزة أَو عَديمة؛ وَمِنْهُ قَوْلُهُ: بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ".
الألوكة
✍ أسعد الله أوقاتكم بطاعته