لمْ يَغِبْ عنْ ذاكرتي، وعنْ عقلي ووجداني، اسْمُ الدُّكتور حَسَن حَبَشِيّ - رحمه الله - وقدْ طالما استعدْتُّ اسْمَهُ كُلَّما عاوَدَني الحنينُ إلى سنواتِ النَّشأةِ؛ تلك التي تَلَقَّيْتُ فيها ألوانًا مِنَ التَّثقيفِ، مِنْها الكِتابُ والصَّحيفةُ والمجلَّةُ، ومِنها الإذاعةُ والتِّلفازُ.
وعَلَى أنَّ الظَّفَرَ بكِتابٍ يُثْرِي العقلَ ويُلْهِبُ الوجدانَ محفوفٌ بالمُصادفاتِ، فإذا فُزْتُ بكِتابٍ معدودٍ في الكُتُبِ القيِّمةِ، فأغلبُ الظَّنِّ أنْ سيَشُقُّ عَلَيَّ فَهْمُ مَقاصِدِهِ، وأنا حديثُ عهدٍ بالكِتابِ والمعرفةِ والثَّقافةِ، فكانَ العِوَضُ مِنْ تعاصِي الكِتابِ لا يُكَلِّفُني إلَّا أنْ أرفعَ سمعي إلى برامجَ في الإذاعةِ، أوْ أنْ أترقَّبَ هذا البرنامجَ أوْ ذاك في التِّلفازِ، فأُحِسَّ أَثَرَ الثَّقافةِ، وأذوقَ طَعْمَ المعرفةِ، ويُصِيبَني ما يُشْبِهُ العَدْوَى، وأَظْفَرَ - دُونَ أنْ أتكلَّفَ مَشقَّةً - بمقدارٍ طيِّبٍ مِنَ التَّاريخِ، والأدبِ، والأخبارِ، والنَّوادِرِ، مِمَّا رأيتُهُ وسَمِعْتُهُ مِنْ أشياخِ الأدبِ والثَّقافةِ في الإذاعةِ والتِّلفازِ السُّعُوديِّيْنِ، وأقربُهُمْ إلَيَّ الشَّيخانِ الجليلانِ عَلِيّ الطَّنطاويّ ومحمَّد حسين زيدان - رحمهما الله -
وأنا لا أَرُدُّ تنشئتي الثَّقافيَّةَ إلى الكِتابِ وَحْدَهُ؛ فالتِّلفازُ مُكَوِّنٌ والإذاعةُ مُكَوِّنٌ، بلْ لعلَّهما يَفُوقانِ أَثَرَ الكِتابِ؛ لِلَّذي مَرَّ مِنْ حداثةِ التَّجربةِ، وتَعَاصِي مَقاصِدِهِ عَلَى تلميذٍ في الابتدائيَّةِ وطالِبٍ في المتوسِّطةِ والثَّانويَّةِ، وإنَّني لَأَرُدُّ إلى برنامجِ "مُسابقةِ رمضان" في القناةِ السُّعُوديَّةِ الأُولَى = فضلَ تعريفي بالسِّيرةِ النَّبويَّةِ الشَّريفةِ وسِيَرِ الصَّحابةِ الكرامِ - رضوانُ اللهِ عليهم - ومَهْما تَثَقَّفْتُ، بعدَ ذلكَ، ومَهْما تَعَلَّمْتُ، فليس شيءٌ يُدَانِي ذلك البرنامجَ الحبيبَ القريبَ، ويُضارِعُهُ في التَّأثيرِ أنَّ وزارةَ المعارِفِ كانتْ قَدْ قَرَّرَتْ عَلَى طَلَبَةِ المرحلةِ المتوسِّطةِ كِتابَ (صُوَر مِنْ حياةِ الصَّحابةِ)، وشقيقَهُ (صُوَر مِنْ حياةِ التَّابعينَ) كِلاهُما للدُّكتور عبد الرَّحمن رأفت الباشا - رحمه الله - وكانَ البرنامجُ وكانَ الكِتابُ عالَمًا بديعًا يَضُوعُ نُورًا، وصِلَةً مُباركةً لي أنا الطَّالبَ في التَّعليمِ العامِّ = بتاريخي وحضارتي وتُراثي، فإذا بالمَعاني الحميدةِ الَّتي انطوَيَا عليها يتسرَّبانِ إلَيَّ، ويَصنعانِ مِنِّي إنسانًا آخَرَ.
وأذكُرُ، مِنْ ذلك الزَّمنِ الوَضِيءِ، برنامجًا تَبَثُّهُ "إذاعةُ نِداءِ الإسلامِ" مِنْ مكَّةَ المكرَّمةِ، أَلِفْتُ أنْ أستمِعَ إليهِ. كانَ اسمُهُ "قِصَّة إسلام صَحابِيٍّ"، يُعِدُّهُ ويُقَدِّمُهُ الدُّكتور حَسَن حَبَشِيّ، وشَدَّني إليهِ أنَّ البرنامجَ القصيرَ جَمَعَ فأَوْعَى، وأنَّ صَوْتَ الأستاذِ القديرِ الَّذي ما كُنْتُ أَعرِفُهُ مِنْ قَبْلُ؛ كانَ صوتًا مُختلِفًا ذا نَبْرةٍ خاصَّةٍ، وكأنَّما كانَ يُحَدِّثُ مَن يستمِعُ إليهِ، بِلُغةٍ عَذْبةٍ بليغةٍ فصيحةٍ مُعْرَبةٍ، يَبْلُغُني أثرُها وفائدتُها، ويستولِي عَلَيَّ موضوعُها الَّذي اختِيرَ اختيارًا ذكيًّا، غايتُهُ التَّأثيرُ والتَّربيةُ، وإنَّني، بعدَ ذلك العهدِ البعيدِ، أُعِيدُ إلى الدُّكتور حَسَن حَبَشِيّ، وإلى برنامجِهِ الحبيبِ القريبِ أنَّهُ صاغَنِي لِأَكُونَ قريبًا مِنْ ذلك العصرِ النَّبوِيِّ المُبارَكِ، وكأنَّما كانَ هذا البرنامجُ القصيرُ، وبرامجُ أُخرَى تُشْبِهُهُ في السَّمْتِ والغايةِ = حِصْنًا يَحُولُ دُونَ أنْ تَصُدَّني أفكارٌ عَرَفتُها، بعدَ حِينٍ، عنْ تاريخٍ هو تاريخي، وتُراثٍ هو تُراثي، مَهْما تَعَمَّقْتُ تلك الأفكارَ والتَّيَّاراتِ، وما زادتْني القراءةُ لتاريخِ الصَّدرِ الأوَّلِ شيئًا ذا بالٍ يَفُوقُ ما سَمِعَتُهُ في ذلك البرنامجِ الحبيبِ القريبِ، وبَلَغَ مِنْ تَعَلُّقي بهِ أنَّني لَمَّا اختلفْتُ إلى الجامِعةِ = أَظْهَرْتُ لصديقي عايض الزَّهرانيّ [الدُّكتور في التَّاريخِ فيما بعدُ] ما أُكِنُّهُ للبرنامجِ وصاحِبِهِ الدُّكتور حَسَن حَبَشِيّ، وسَرْعانَ ما قالَ لي: إنَّهُ كانَ أَحَدَ أساتذتِهِ أيَّامَ اختلافِهِ إلى قِسمِ التَّاريخِ بجامِعةِ الملِكِ عبدِ الديزِ بجُدَّةَ، وسَرَّني ما سَمِعْتُ وغَبطتُ صديقي عَلَى تلمذتِهِ للأستاذِ القديرِ!