"صديقتي الحبيبة:
اليوم وأنا أخطو أولى خطواتي نحو هذا المبنى العظيم أخذتني الرهبة وأنا أراه فاتحاً جناحيه المهيبين لاعتناقي وبوابته الواسعة تفتح فاها مبتسمة لي ابتسامة مرحبة, بادلت هذا المكان الابتسام وشعرت أني سأضمه بين جوانحي يوماً كأغلى مكان, وأنه سيصبح بيتي الثاني وسكني لخمس سنوات طويلة فيجب على مزاجي أن يعقد مع كل أركانه صداقة طويلة حتى لا يضيق أحدنا بالآخر.
وأنا أتجول خلف مشرفة القسم مع عدد من الزميلات ترشدنا بحنان مؤقت لمواقعنا في معركة التعايش مع أنماط مختلفة من الطبائع والأخلاق، شعرت أنني لست الوحيدة التي تفكر بالعودة من حيث جاءت, وأيضاً تتمسك بالبقاء حيث يجب أن تكون.
مرت الأسابيع الأولى في رحلة الاكتشاف والتعرف كأنني طفلة في عامها الأول تتعلم كيف تتذوق ما حولها وتبلع ما يجب بلعه وتلفظ الآخر, لقد تعرفت على زميلتيّ في الغرفة، فقد كنا ثلاثا نشترك في سقف واحد تخترقه أفكارنا المختلفة وقت الشرود لتعود أوقات المذاكرة وتناول الوجبات أو إعدادها..
زميلتي "حنان" فتاة مهذبة جدا وخجولة و محتشمة ومن عائلة معروفة وعريقة, لقد جاءت لتتعلم وتصبح شيئاً ذا بال يدعو للفخر.
أما "مايسة" الجريئة اللعوب فقد جاءت كي تتعلم فن الاستمتاع بالحياة كما تقول.
لم يكن يجمعنا سوى مظهرنا الخارجي، فكل واحدة منا ترتدي الحجاب اليمني مع النقاب والجلباب، وهذا في نظري يكفي، فكل واحدة لها عالمها الخاص واهتمامها السريّ..
أنت تعرفينني.. لقد كنت أعشق مراقبة الناس وفتح صدري خزانة لأسرارهم ومشاكلهم، وكنت أجعل محبة من حولي أكبر اهتماماتي، فكانت كل صديقة تبثني همومها وهي تثق في صدق حفظي لها.
وهنا بدأت معاناتي وانقلبت هوايتي إلى محنة, ولأنني أعرف أن لكل شخص قلبا يحتوي قلبه، وأنك القلب الذي يحتويني، وصديقتي التي أثق برأيها وصدق محبتها، فسأشكو إليك وأطلب النصح منك. دمت لي أبداً, هند..
****
"عزيزتي: أنا سعيدة أنك وجدث في ذلك المكان الموحش أصدقاء غيري وأن الوحشة لم تسكن قلبك الجميل بعدي, كما أعرف أنك ستتغلبين على كل الأزمات التي قد تواجهك كطالبة في سكن داخلي وستمارسين هوايتك العجيبة في احتضان هموم الغير حتى تثقلي قلبك الجميل، ولأنك لم تخبريني بما ألمّ بك فأنا أرجوك أن تحاولي الاهتمام بك وحدك وتتركي الآخرين يهتموا بشئونهم.
دمت لي أبدا، نوال..
***
"غاليتي: تعرفينني! لو تركت العصافير الأشجار يوماً فإن الهموم ستتركني, إنني أبدو كقوة جذب طبيعية لها وكأنني مصدر ضوء لا تطير حوله سوى المشاكل التي تشبه الحشرات الكبيرة البشعة, فلا يمكنني وصف ما أنا فيه بحقل الفراشات. ولكن دعيني أقول لك كيف تحولت هوايتي بدور الأم الروحية للجميع إلى محنة لا أدري كيف أتصرف حيالها, إنهما رفيقتا الحجرة حنان ومايسة.
كما أخبرتك، هما متناقضتان في كل طباعهما واهتماماتهما، وهذا الأمر لا ضير فيه، فكل الناس تختلف وتعيش على اختلاف, لكن ما يؤلمني في هذا الأمر هو تصرف كل منهما نحو الأخرى، فحنان الخجولة المحتشمة ترى في مايسة الفجور والفسق وقلة الحياء والدونية, خاصة حين رأينا علاقاتها المريبة عبر الهاتف واتصالاتها مع أكثر من شاب من خارج الجامعة وتفاخرها بما تفعله مجاهرة دون حياء, يبدو الأمر منفراً لي أنا أيضاً, خاصة مع تعدد علاقاتها، فلو أنها أحبت شاباً حباً نظيفاً وارتبطت به روحياً لساعدتها في مداراة هذا الحب والحفاظ عليه من اللغط والكلام حين تأتي كل ليلة تقص علي مغامراتها الكريهة كأنها على كرسي اعتراف أمام الكاهنة الأم. في أحدى الليالي سألتها عاجزة عن الفهم:
_كيف ترتبطين بعلاقة حب مع أكثر من شخص؟
فأجابتني بسخرية عجيبة:
_ليس حباً، هي علاقات عابرة.
صدقيني لم أعد أفهم ماذا تقصد بالعلاقات العابرة؟ وكيف يتم عبورها من القلب هكذا وتنفذ منه دون أن تترك أثراً كما تترك الحروق؟ يبدو فيها الأشخاص وقد التقوا في حافلة في طريق ما, وتبادلوا أحاديث تافهة عن الطقس وأسعار البقالة، وقد يبدي أحدهم إعجابه بطلة الآخر وملابسه الأنيقة ثم ينزلون في أول محطة ويقول كل للآخر وداعاً, وتكون هذه علاقة عابرة.
تبدو مايسة عابثة بلا أخلاق، وكنت أضيق بحكاياتها، وأتمنى لو تعتقني من سماعها كل ليلة، لكن هذه ليست المصيبة الفعلية، بل المصيبة أن مايسة لا تسيء لنفسها فقط, بل لحنان أيضا، سأخبرك بالمصيبة في الرسالة القادمة فأنا لدي الأن محاضرة.. محبتك هند.
****
عزيزتي هند: لقد أثرت قلقي عليك فكيف لم تكملي القصة؟ وكيف تفتحين أذنيك وقلبك لمريضة القلب هذه؟ أي نوع عابث من الفتيات هي؟ أرى أن تؤدي واجب النصح لها فلربما تعتقد أنها مرغوبة من الشباب بهذه الطريقة ولا تدرك أنها ستبقى مجرد فتاة وضيعة سهلة في نظرهم.. محبتك نوال.