حاول الباحثون الغربيون تحديد سبب معين لاندلاع نار الحروب الصليبية القديمة، وذهبوا في ذلك مذاهب شتى، فمنهم من زعم أن هذه الحروب قد جاءت نتيجة استيلاء الأتراك السلاجقة على بلاد الشام، وسيطرتهم على طريق حج الفرنج إلى القدس، ومنهم من زعم أن ما ظهر من ضعف دولة الروم البيزنطيين في معركة ملاذكرد والتي انتصر فيها السلطان ألب أرسلان السلجوقي على امبراطور الروم أرمانوس سنة 463هـ= 1070م كان هو السبب في استثارة الغرب لتجريد الحملات الصليبية.
وحاول آخرون إيجاد هذا السبب في وسط الغرب ذاته، فالفقر والجهل وسيطرة الكنيسة والانغلاق الفكري مقابل ما كان يعيشه العالم الإسلامي من تقدم فكري ورفاه اقتصادي وتطور اجتماعي قد استثار شهوة النهب والتدمير في وسط قيادات الغرب، ومارست الكنيسة دورها لتوجيه الجهود ضد المسلمين، وقد لا تكون هناك حاجة لدحض هذه المزاعم، أو إقرار بعضها ودحض بعضها الآخر.
والحقيقة أن منطق التاريخ لا يقبل مثل هذا التجديد الزمني والمكاني للأحداث، فتيار التاريخ المتدفق، ونسيجه المتصل يرفض الانقطاع ويمتنع عن التجزئة، فلقد كانت الأماكن المقدسة تحت حكم العرب المسلمين منذ قرون، وحاصر العرب المسلمون عاصمة الروم مرات كثيرة، ولم تكن قضية حفنة من الحجاج – حتى لو وجدت مثل هذه القضية- جديرة بتجريد مثل هذه الحملات الضخمة، ولو كان الأمر كذلك أيضًا لما كانت للفرنج حاجة لإقامة أماراتهم ومملكتهم في بلاد الشام، ولما أوغلوا في عمق البلاد فحاولوا الوصول إلى بغداد والأماكن المقدسة في الجزيرة العربية، ولما حاولوا احتلال مصر ودمشق.
يظهر استعراض النسيج التاريخي المتصل أن أرض الأندلس، وجزائر البحر الأبيض المتوسط، كانت هي المهد المبكر للحروب الصليبية، وقد عملت الكنيسة – روما – باستمرار على توجيه الجهد وحشد القوى ضد المسلمين، غير أن انتصارات المسلمين على الجبهات كافة، دفعت قوى الفرنج الصليبيين لمهادنة المسلمين أحيانًا، أو اتخاذ سياسة دفاعية في مواجهتهم في أحيان أخرى، حتى إذا ما أحرز الفرنج، حتى إذا ما أحرز الفرنج انتصارهم الكبير على المسلمين فانتزعوا منهم طليطلة سنة 478هـ= 1085م.
وجدت الكنيسة أن الفرصة قد باتت مناسبة أو مواتية للانتقال إلى الهجوم الشامل، وضرب المسلمين في عقدر دارهم بالاستيلاء على بلاد الشام، ووقف البابا ايربان الثاني في مجمع كليرمونت بفرنسا سنة 489هـ= 1095م، فأعلن بندائه الشهير بداية الحروب الصليبية عندما قال: "فلينهض الغرب لنجدة إخوانه المسيحيين في الشرق".
هكذا لم يكن إعلان البابا للحرب الصليبية إلا ثمرة مخاض طويل، وإلا نتيجة جهود مستمرة عبر أزمنة متتالية، بدأت بمسرح الصراع الرئيسي على أرض أندلس المسلمين، وامتدت إلى جزائر البحر الأبيض المتوسط، وانتهت على أرض بلاد الشام، حيث القاعدة الأساسية لانطلاق جيوش الفتح العربي الإسلامي.
اصطدمت جحافل الفرنج الصليبيين بجند المسلمين في كل مكان، وهبت جيوش المدن الإسلامية لمقاومة قوات الغزو، وظهرت منذ البداية محاولات لتنسيق التعاون بين جيوش المدن الإسلامية، واصطدمت هذه المحاولات بعقبات كثيرة حتى استطاع الزنكيون الانطلاق من الموصل إلى حلب ومنها إلى دمشق ثم مصر، فأمكن تشكيل جبهة إسلامية متماسكة أوقفت مد الفرنج، وانتزعت منهم بعض إماراتهم (الرها)، مما دفع الفرنج لتجريد حملة صليبية ثانية، وجاء الأيوبيون في أعقاب الزنكيين الذين مهدوا لهم سبيل الحكم، فتابعوا حمل راية الجهاد في سبيل الله، ووصلوا اوج قوتهم في معركة حطين وإعادة فتح القدس، وتبع ذلك تحول حاسم، حيث ظهر وجود الفرنج في بلاد الشام بأنه وجود ضعيف، مما دفع الفرنج لتجريد حملة صليبية ثالثة، وجاء بعد المماليك فتابعوا السير على درب الجهاد، وقد اتضحت معالمه وتحددت أهدافه، فقادوا جموع المسلمين لخوض أكبر معركة ضد المغول – التتار (عين جالوت)، وتبع انتصار المسلمين هجوم عاصف على بقايا الفرنج، ولم تنجح الحملات المتتالية إلا في إطالة أمد الحرب وإلا في التعرض للمزيد من الخسائر على طرفي جبهات الصراع المسلح.
فقد شرع الأتراك العثمانيون في ممارسة دورهم برفع راية الجهاد، وانطلقوا من شمال بلاد الشام وآسيا الصغرى، فأمكن لهم نقل الصراع المسلح إلى أوروبا، وجابهوا هناك الحملات الصليبية المتتالية ودمروها، ولم يكن فتح القسطنطينية، إلا ثمرة من ثمار تحول مسرح الصراع المسلح من بلاد الشام إلى شرق أوروبا.
هكذا اشتركت الشعوب الإسلامية من عرب وبربر وكرد وترك وديلم وفرس وسواهم من أمم الأرض في احباط الحملات الصليبية ودحرها، وقد اجتهد الباحثون والمؤرخون في تصنيف هذه الحملات - في إطارها الزمني- فكان منها التصنيف التالي: