تِشرين.

أمقت أولئك الذين يتباهون بقسوة قلوبهم، الذين يظنون أن قسوتهم درع يحميهم من عثرات الحياة، متجاهلين المشاعر والرأفة. أليس العطف قوةً أعظم؟
أن تفقد قلبك يعني أن تفقد إحساسك بالحياة، أن تصبح جدارًا لا يصلح حتى للاستناد إليه.

أفكر كثيرًا في أولئك الذين رحلوا من أجل هذه اللحظة، وأتساءل عن حال من شابت أرواحهم انتظارًا لهذه السعادة التي امتزجت بألم فراق من غادروا.
تُرى ما شعورهم هذه الليلة؟
هل يحنّ الجميع للجميع؟
هل ستمطر السماء فرحًا فوق الركام، أم شوقًا لأولئك الذين لم يشاركوا هذه اللحظة؟

تعيدنا الكتابة إليها كلما ضللنا الطريق، تحتضن أرواحنا بحنانٍ خفي، وكأنها تهمس لنا بأن الغياب لا ينفي الترحيب، وأن في أحضانِ الكلمات ملاذًا سرمديًا لا ينضب من الأمان، تزهر في أعماقنا يقينًا بأن من يكتب لا يُنسى، ومن ينقش أثره على الصفحات لا يفنى، تبقى الأحرف شاهدةً أبدية على وجوده، تعيدنا إليها كأمٍ لا يشيخ حضنها.

يجبرنا الله على الصبر في اللحظات التي تكاد تكسرنا، وحده يعلم كيف تتآكل الروح بصمت، وكيف تثقلها الغصات حتى يخنقها الهواء، تتكرر الدائرة: فكرة تؤرقك، وذكرى تُلقي بك في متاهة لا نهاية لها، كلما حاولت النهوض، سقطت أعمق، كأنك تسقط في هاوية دون قاع.

تتأمل ملامحك في المرآة؛ عينان أثقلهما الحزن، وابتسامة شاحبة تخفي انكسارًا. تهمس لنفسك بوعد زائف: "هذه المرة الأخيرة" لكنك تدرك أنك أصبحت كاذبًا ماهرًا، خُدعت وقسوة الحياة صيّرتك مثلها.

ولكنك لست مثلها، رغم كل محاولات القسوة لتغييرك، بقيت نقيًا، في كل انكسار، كنت تلملم ما تبقى منك وتواصل، روحك المتعبة، تلك التي تحسبها ضعفًا، هي أعظم ما فيك، هي النور الذي يضيء حين يعم الظلام، وهي الدليل على أن قلبك، رغم كل شيء، ما زال نابضًا بحب الحياة.

وفي قلبك نورٌ خُلق ليبقى، هو ما يجعلك مختلفًا عن كل من حولك، شقاء روحك ليس عيبًا، بل هو ما يمنحك عمقًا وقوة، هو ما يُهيئك لتكون أثرًا خالدًا في عالم يعج بالفوضى. حب الله لك يظهر في صبرك، في قدرتك على النهوض رغم الانكسارات، وفي نقائك الذي لم تستطع الحياة أن تطفئه، أنت لست مجرد عابر في هذا العالم، أنت رسالة؛ تحمل فيك نورًا يُعيد للإنسانية معناها، وقلوبًا مثقلة ستجد فيك الأمل، لأنك لم تستسلم، ولم تسمح للظلام أن يبتلعك.

أماني البُريهي.

‏كنت أمقت كوني حساسة، اعتقدت أنها صفةٌ تجعلني ضعيفة، ولكن، خذ هذه الصفة الواحدة مني وستأخذ جوهر ما يجعلني أنا فعلًا، ستأخذ ضميري، وتعاطفي، وحدسي، وإبداعي، وتقديري لكل تلك الأشياء الصغيرة، وحياتي الداخلية الصاخبة، ووعيي العميق بألم الآخرين، وفوق ذلك شغفي بهذا كله.

| كايتلن جابا.

أيعشق المرء عذاباته، أم أنه أسير لها؟
كيف لحب ندبةٍ تؤرقه أن يصبح منطقًا؟
أيعقل أن يبقى مقيدًا بذكرى تلتهم أعماقه؟

فقدتُ ثرثرتي وما عدتُ أحسنها
كأنَّ الكلامَ شتاتٌ في معانيها
يتناوبُ الروحَ شعورٌ غريبٌ بأنني
لستُ أنا فما عدتُ أدركُ من يُحييها
أضعتُ فلسفتي وأوهنتُ آمالي
فما عدتُ أؤمن بالبقاءِ ولا أُحييها
أُراقبُ الحياةَ بمللٍ يثقلُ النفسَ
أتساءلُ: من أيِّ الوجوهِ ستُؤذينا؟

لا شيء في الكون يستحق الاندفاع نحوه، سبب كافٍ لئلا تحلم.

يحمل على عاتقهِ جرم إخماد قلبٍ وسرقةِ أمانه، غرس الرجفة في أعماقه وسلب بريق ابتسامته.

"في ديسمبر تنتهي الأحلام"
ينقشع ستار الأمل الأخير، ونتحول إلى غرباء حتى أمام ملامحنا، ننظر للخلف بعينٍ مثقلة بالخذلان، ونستعيد مشاهد سقوطنا المتكرر تحت ثقل الليل البارد، كيف ابتلعتنا المواقف؟ كيف انهارت صوامع الثقة تحت وطأة أشباه البشر؟ وكيف فقدنا ذلك الإيمان الطفولي بأن الخير دائمًا ينتصر؟

عامٌ واحد يكفي ليُعيد تشكيلك، ليضعك أمام مرآة مختلفة تمامًا، يناير كان عذبًا كمطلع أغنية، واعدًا كبداية حكاية لم تُكتب نهايتها بعد، لكن ديسمبر! ديسمبر يجردك من أوهامك بلطفٍ مؤلم، ليذكرك أن الأحلام أحيانًا ليست سوى كوابيس مقنَّعة. يسقطك لتتعلم، يخذلك لتصبح أكثر صلابة، وينزع عنك غشاوة السعادة العابرة لتدرك كم دفعت روحك ثمنًا لتلك اللحظات الخادعة.

حين تنتهي الدائرة، لا يبقى بجانبك سوى صدى صمتك، يدٌ تمتدّ من الماضي، لكنها ليست لتمسك بك، بل لتودعك، تُدرك فجأة أنك محارب وحيد في معركة غير متكافئة، تكبلك الأحلام التي دفعتك عاليًا ثم ألقت بك في الهاوية، تبكي بصمت، خجلًا من قلة حيلتك، وتتساءل:
هل كنت بحاجةٍ إلى قسوةٍ تُنجيك من هشاشتك؟ هل كانت الرحمة خطيئتي الكبرى؟

في عالمٍ يسوده القُساة، تنهزم فطرتك الطيبة أمام نزيف قلبك. ذلك القلب الذي يئن لطفلٍ جائع في الزاوية، ويتوجع لقتيلٍ مجهول على بُعد آلاف الأميال. تتمنى أحيانًا لو أنك كنت كاذبًا، أنانيًا، مجردًا من إنسانيتك، فربما كان شقاؤك أقل، لكن الحقيقة تُباغتك: أنت لا تملك القسوة لتصبح مؤذيًا، لذلك تُؤذى.

تمر الأيام وأنت تتأرجح بين الرغبة في النهوض والخوف من السقوط مجددًا، كلما حاولت يأتي صوتٌ من الأعماق يهمس لك بشماتة، يعيد على مسامعك ذات الكلمات التي ظننت أنك نسيتها: "هذا العالم ليس لك." فتختار الصمت، لا ضعفًا، بل استسلامًا للحقائق التي لا تتغير.

ديسمبر...
كذبة ثقيلة يبتكرها من يأمل أن يمنحه العالم يومًا ما شيئًا من الإنصاف. لكنه ينتهي دائمًا ضاحكًا منك، يتركك بين رماد ذكرياتٍ واهنة، بلا أحلامٍ جديدة تسعى إليها، فقط كي لا تُخذل مجددًا.

أماني البُريهي.

ثم إياكَ أن تُصبحَ نُدبةً في قلبِ أحدٍ، فيدعُو عليك، فتُصيبكَ دعواتُه كالسهمِ، لا تُخطئُكَ ولو بعد حين.

لولا وجود الله والدعاء، لَجُنَّ الإنسان من ضعفه وقلة حيلته.

كم مرةً على المرءِ أن يُدفن قبل أن يموت؟

وكأن للهاوية يدًا تمدها إليك لتغريك بالسقوط.

غريبٌ في ديارٍ
كان يألفها
وحيدٌ في الزحام
ينادي الصمتَ في قلبٍ
أرهقه الندم
ويبكي شوقه خلسةً
حيث يغتالهُ الألم
غريبٌ في ليالٍ
لم يعد فيها القمر
أسيرُ ذكرياتٍ
حطمتها يد القدر
يراقب عمره يمضي
كظلٍ يحتضر.

والغريب في الأمر أننا نذوب عشقًا في هذه المدينة، رغم كل ما حلّ بها من خراب.

كان علينا تجفيف السنوات السعيدة، واستخدامها في أيامٍ كهذه.

"بكرة تكبر وتنسى!"
كان الجميع يرددها من حولي، حتى ظننتها حقيقة مطلقة، كنت أرى أن مرور الأعوام عصا سحرية قادرة على محو كل أوجاع البشر، لكنني أدركت لاحقًا أنها ليست سوى واحدة من عبارات المواساة الزائفة، كبرنا وبقيت ندوب الطفولة عالقة في أعماقنا، نرتجف كلما مرت ذكرياتها، لا تتلاشى، ولا تُدفن مهما حاولنا دفنها أو حرقها. تتغلغل في خلايانا، تنتزع منا الحياة، وتزرع فينا الخوف من تكرارها، الخوف من أن تعود لياليها القاسية؛ الرجفة ذاتها، قلة الحيلة، العجز، الرعب، الأصوات، والركام. المناظر ذاتها تعود، ويمر الشريط بحذافيره، فتتهاوى أرواحنا، تغادرنا الحياة تدريجيًا، وها أنت الآن كبرت، فلماذا لم تنسَ؟

حين تنتهي الحرب، سترحل عنا أحلامنا، أو ربما سنرحل نحن. سيبقى الوطن، ونُنسى، سيدفن معنا خوفنا وحكاياتنا، وفي محكمة العدل سنقف هناك لنسترد كل ما سرقته منا الحياة، سنضحك كثيرًا، فلا خوف يحيط بنا، ولا ظلم يغتالنا.

ديسمبر خرافة لمن يدّعي الأمل، لكنه يترك خلفه حكايات مبتورة ونهايات موجعة. كأنه يمر ليذكرنا أن كل ما نحبه يرحل دون وداع.

من اعتاد القلق، تفتك به همسات الرياح.

عثرة واحدة، ومنذ ذلك الحين فقدت ملامحي.

صغيري..
تمضي السنوات مسرعة، وها أنت تكبر قليلًا، أكثر مرحًا وشقاوة، وأنقى ابتسامة تشرق بها فتضيء العالم من حولنا، يكبر حبنا لك بقدر ما تكبر، وتزداد بهجتنا بك يومًا بعد يوم.

مازلت ألطف إضافة لعائلتنا، الحب الخالص الذي يجمعنا، يداكَ الصغيرتان عالم من الحنان، وابتسامتك ملاذ هذه الدنيا. أصبحت أكثر شقاوةً، وأحيانًا كوميديًا مبهر، وجُملك العفوية التي تفوق عمرك تضفي على أيامنا بهجة لا مثيل لها. أما عيناك البريئتان، فهما مرآة لصفاء الكون الذي نفتقده، ولمعانهما قصة لا تسعها الكلمات.

يزوني
ستمضي الأعوام، وستكبر. ستقرأ يومًا
ما كتبته لك، وربما ستخطُّ بيديك قصصًا تُخلِّد ذكرياتنا. سنضحك معًا حين نستعيد أيامنا التي كنتُ فيها "توم" وأنت "جيري"، نركض سويًا كطفلين، نتجادل، نتعارك أحيانًا، لكننا في نهاية كل مشهد نعود لنضحك، لنكتب فصلًا جديدًا من حكايتنا.
دعني أخبرك سرًّا، أنك حبيبي الأعظم فلا حب في العالم يضاهي حبك، ولا أحد يستحق أن أذوب في ملامحه كما أفعل كلما نظرتُ إليك. أنت روحي مهما وبختك، ومهما تصرَّفت بعناد الطفولة التي تجمعنا.

قُليبي
أسأل الله أن يكون دربك مضيئًا وعظيمًا، لتكن شخصًا مبهرًا نفخر بك، وليكن الأمان رفيقك والسعادة حليفك في كل خطوة. لتكبر معنا كقطعة حلوى تضفي على حياتنا المزيد من الحلاوة والفرح، لتصبح أكثر إشراقًا وبهجة مما نحن عليه.

كل عام وأنت بهجتنا وأملنا
كل عام وحضنك النقي ملاذنا
كل عام وأنت صغيرنا الذي نسأل الله له الخير دائمًا.

٢١ كانون الأول
سأحبك دومًا كأول مرة
عمتك الشقية
أماني.

يتجرّع المرء أحزانه، ويتنهد عوضًا عن البكاء، يستمر في الركض في منعطفات الحياة دون روح، يودّع كلّ يوم حلمًا من أعماقه، يعتاد أن تسرق منه الحياة كلّ ما يشتهيه، ثم يسكن خائبًا، خاليًا من اللهفة، نافضًا يديه من كلّ شيء، منتظرًا أجله.

مثيرة للدهشة، تنهار بابتسامةٍ ثابتة، وتنير الأرض بروحها، مفعمة بالحياة كطفلة، كأنها قصيدة تُكتب بين يديها.

كنتُ أقرأ القلق في عينيك دون أن تنطق به، وهذا أعمق ما يقدمه الإنسان للإنسان.

ممثلٌ بارع
يغرق في قصصِ الكون ليخفي حكايته، يتحدث بفلسفةٍ تفوق احتماله، يظهر بمظهرٍ آخر، يتصنّع القوة، ويتظاهر وكأنه دون قلب. ذاك الذي من فرط ما مر به قلبه أصبح ساحة معركة.
يخفي خلف فلسفتهِ أرق الليالي، ويتقن نسخ نفسه إلى نسخ متعددة: النسخة اللامبالية، النسخة القوية التي لا يهزمها شيء، لا يحطمها فقد، ولا يقتلها موت.
لكن مهما أجاد التمثيل، يفشل في إخفاء مراسم انهياره؛ فيتصاعد حريق روحه، كاشفًا معاركه الداخلية.
تسقط النسخة الزائفة، فيبدو أمام مرآته كما هو حقًّا: طفل خاوٍ من الزيف، يود لو يعود راكضًا إلى حضنِ أمه ووطنه.
يحاول مجاهدًا، أن يبدو كمحاربٍ، لكن سيفه أثقل من عمره، ممثل بارع في عيون من لا يعرفه، لكنه يُهزم أمام قلب يعرفه بصدق.
طفلٌ هو ما زال يحنّ إلى خبز أمه، ما زال يشتاق إلى ضحكاته البريئة، أراد أن يدفن طفولته خلف قناع الفلسفة، لكنه ما زال يختبئ خلفها، يبحث عن نفسه.

| أماني البُريهي.

وأحدهم يُخبئ خلف ابتسامته حطامًا لا يُرى، كأنّها وسيلته الأخيرة للنجاة، قناع هش يكاد يسقط تحت وطأة ما لا يُقال.

أعرف جيدًا مرارة أن يثقل عليك الهواء، كيف تحتضن يديك لتخفي رجفتهما، وكيف تتنهد لتبتلع الغصة، وكيف تواصل الطريق بينما داخلك يتهاوى.
أعرف كيف تقاوم نظرات من حولك، تلك التي تفتش في ملامحك عن اعتراف، وكيف تخفي ارتعاشة صوتك بترنيمة مبهمة، وكيف تعود لنفسك بعد يوم طويل متخاذل، يرافقك فيه الأسى.
تطفئ الأنوار لتواجه عتمة روحك بصمتٍ ثقيل، تواسي ندباتك بكذبة صغيرة، وتزرع الأمل في قلبك كزهرة ذابلة، لا ماء يرويها ولا شمس تدفئها.

في سوريا، لم يعد الغائب الأحب في ديسمبر وحسب، بل عاد كل أسير، وعاد الوطن!

والراحلين أيضًا، كانوا يبدون وكأنهم لن يرحلوا أبدًا.

يحيا المرء مُتمسكًا بأحلامهِ، كُل ما فارقتهُ مات، كم يموتُ المرء مراتٍ هُنا؟

ستَنسى، وستُنسى!

ستزول الندوب أيضًا.

يومًا ما ستنتهي..

كان يستطيع أن يغادر، وأن يصبح مؤذٍ أيضًا، أن يبقى كنُدبة، لكنهُ نقيّ، ولأنه نقي كثيرًا ما يُؤذى!

تَائِهٌ!
حَارت بهِ أضْلعه
فَوجههُ المملوح بأدْمعِه
وقلبهُ المملؤ بأوجعِه
ودربهُ المنفيّ عَنه
يسألون!
إلىٰ مَتىٰ سَيبقىٰ الإنسانُ
جرحًا غائرًا، ووجعًا جائِرًا
فِي قلبِ بَنيهِ وعِصمته.

"يختار الإنسان ألمه بكامل قناعته ثمّ يعيش بقية عمره في حسرة على اختياره"

تِشرين
ليست مجرد أحرف، أنما هي اقتباس غزل حقيقي، تخيل عوضًا من قول أحبكِ، أن نقول تِشرين، تِشرين جدًا.
إن المشاعر التي تصيب المرء بهِ يجعلك في حيرةٍ كيف للأيام أن تبدو هكذا، دافئة وغريبة، باهتة ومفعمة بالأمل، شيء ما يتعلق بالخريف هو من سيجيد تفسيره!

منذ سنوات في آخرِ ساعاتهِ، كانت أمي تنتظر رؤيتي لأولِ مرة، لستُ أعلم عن شعورها حينها، لكني أعلم أنها أحبتني كثيرًا، كثيرًا للحدِّ الذي يجعلني أنثى مليئة بالحُب والعطف والحنان، تمامًا كأمّي، ملامح الطفولة دموعي وألعابي شقاوتي أيضًا، تحفظها بحبٍ في السماء، فراشتها وأميرتها، وروحٌ من روحها، قلبها يسكن قلبي، وذكراها في روحي.

ابنة ملاك عظيم، عظمتها نواسي بها غيابها المُر، أكتوبر يعيدني إليك، كلما كبرت زاد الحنين، وقرب اللقاء، زاد بي الفخر أني ابنة عظيمة مثلكِ، أحمل ذكراكِ في داخلي أكثر، وحدكِ من يستحق أن يكتب له، أني أحيا منكِ ولأجلكِ، كل عام وأنتِ الحُب النقي يا أمي.

تِشرين
ختامهُ زهرتكِ، ختامهُ أحلامٌ كثيرة، أصدقها رؤيتك، كل عام وأنتِ في داخلي أعظم روح أحبتني، كل عام وأنا عظيمة لأني ابنتكِ، كل عام وأنا وأحلامي لأجلك، أحبُّكِ كل يوم أكثر، واليوم أكثر فأكثر.

‏"وأخذت أنظر للطريق مُعاتبًا
‏كيف انتهت بين الأسى أيامي؟"

أنا أحبّ الذين نهضوا من كلّ هذا، الذين استطاعوا عبور النفق - رغم الخوف - بحثًا عن النور، الذين تحلّوا بشجاعة الاعتراف، بالخسارة ولم يتوانوا عن المواجهة، الذين يباهون بندوبهم ولا يخجلون منها. هؤلاء يصعب تحدّيهم، هؤلاء أطرى من الكسر، وأكبر من الهزيمة، وأطول عمرًا من الخذلان.

كنتُ دائمًا ما أرددها "أخاف من أن أُنسى، ألا يتذكرني أحد بعد وفاتي" تلاشى هذا الخوف حينما أيقنت أننا قد نُنسى في الحياة، في الوجودِ أيضًا، سيمر كيومٍ عادي، قد لا يعلم البعض عنك، منسيٌّ في اللاوجود، ثم يتردد في داخلي ملامحًا تُشبه ملامحي، صوت عميق يخبرني: "جميعنا لن ننسى، هناك من سيروي عنا بعينينِ ممتلئة بالحنين، هناك من يرى بنا الحياة، يؤمن بنا حين نيأس من أنفسنا، تلمع عينيّه بحبٍ وبفخرٍ لأجلنا، هناك في الأفقِ البعيد من يدعو لنا، ستصلنا تلك الرسائل، نحن لم نترك من رحلوا عنا دون وداعات، أرسلنا الكثير من الرسائل إلى الله، غادرتنا أحرفنا إليهم، تارةً كانت ترد علينا النجوم، وتارةً تمطر، نؤمن حينها أن رسائلنا قد وجدت عناوينها، أننا أخبرنا من دفنوا في الأرضِ أن موتهم ليس النهاية، وأن اللقاء يقنيًا من الله لنا، لمَ لا نرى الموت بنظرةٍ مختلفة؟
كل من قُتل فؤادنا بغيابهِ رحل إلى السماء لجوارِ من يحب، ربما النداءات من جعلته يرحل، ربما الموتى أرادوا لقائهم!

ذات مرة استوقفني مشهد درامي، طفل يتساءل: "حينما أكبر و أموت هل ستعرفني أمي بملامحي هذه؟"
أظن أنهم يراقبوننا، يحفظون ملامحنا عن ظهرِ قلب، لكني أتساءل أيقتلهم الحنين مثلنا؟
لمَ لا يطلبون الله رؤيتنا؟

مازلت أتذكر أكتوبر العام الماضي، وأنا أتخطى المشاهد لفرط هشاشتي، أتعثر بأحدهم فيسود العالم في عينيّ، تتسلل الرهبة في كل خلاياي، فأتمنى لو ينتهي العالم، نموت دفعةً واحدة، لا مزيد من الوداعات المُرة، لا مزيد من الموت المطلخ بالدماء، قلبٌ مثلي لا مكان له في هذهِ الأرض، تقتله الحياة بصدماتها عوضًا من أن يصبح قاسيًا، يصبح أكثر حساسية، يشمئز من الأذى، كل مؤذٍ في نظري هو مشروع مصغر لإسرائيل، دون قلب!
مازلت أتحاشى المناظر، ومازالت المناظر تدور في مخيلتي، تصيبني بالجنون تارةً
كيف يمكن للمرء أن يصبح قلبه وحشي هكذا، كيف يتلذذ بدماء الأبرياء، أتنبض قلوبهم مثلنا؟
أيُّ مرض يصيبهم ليفقدهم السيطرة، أيُّ لعنة جعلتهم بهذهِ البشاعة، وأيُّ قلب هو من يتجاوز هذا؟
كيف يحيا المرء يومه دون أن ينهار، كيف تعمل عقولهم، مازلتُ اشمئز من كل من يؤذي المرء بخاطره وروحه، فكيف بمن يبترها دون رحمة!
تتردد الأصوات في داخلي، فأتساءل ماذا لو كنت مكانهم، ماذا لو من رحلوا هناك جزء مني؟
تلك الاسئلة تشعرني بالأنانية، نحنُ فقط ننهار حين يصيبنا الأذى، لا حين يصيب الاخرين، نمر على أحزانهم تؤلمنا قليلًا ثم نعود لنغرق في يومنا، على الرغمِ من أحداثه المتكررة، ننسى نتناسى، لأنها ليست أرواحنا، ليست دمائنا، يشمئز المرء من فرطِ أنانيتهِ كيف يتخطى هذا ويغرق في أحزانه التافهة؟
أيُّ حزن أعظم من هذا؟
أن تصبح غريب في أرضك، وحيد بين أشلاء عائلتك، أن تبتلع الأرض كل ما حولك، ثم تعجز عن فعل شيء، عاجز أنت لا تملك سوى صوتك المبحوح، وقلبك المكلوم، وكومة أشلاء لأحلامٍ وضحكاتٍ كثيرة، تخيل أنها تُعنيك، إن الخيال مرهق فكيف بمن يعيشه، أخجل من كوني هشة أتحاشى رؤيتهم هكذا بينما هم يعيشون المشهد عن قرب، يودعون الحياة كل ثانية، يعيشون الوحدة والخوف كل يوم، إن العالم مقرف حد الغثيان، أرخص ما فيه روح الإنسان وخاطره..نجا من مات، ومات من نجا.

كل عام وطننا شامخًا، رغمًا عن أنوف الطغاة، كل عام والوطن حُر وعظيم..سبتمبر مجيد.

"ختام الأشياء وأجملها"

صغيرتي التي تكبُر، بقلبٍ قطنيّ وعينيّن بُنية، وروح نقية تكبر عمرها الطفولي، مرحة تثبت أن أحزان الأرض مجرد مزحة، عظيمة كالوطن.

ختامه ورد
أهدتنا أمي بُستان ورد، أزهرت منزلنا، يكبر البستان كلما ابتسمت، يزهر أكثر، تتورد الحياة برفقتها، أهدتنا هي أُمي لتُنير المنزل، لتزرع البهجة أيضًا لذا اسمتها فرح!

تكبرين تكبر الأحلام، تشرق الشمس، تبتهج الأيام، كل عام وأنتِ عظيمة ابنة عظيمة، كل عام وأنتِ صغيرتي، رفيقتي والحياة، كل عام وأنا أحبك أكثر، ليكن دربكِ منيرًا مبهرًا كابتسامتكِ
دمتِ بخير أنتِ والوطن.

كانت سنوات مليئة بالحكاوي، ضحكنا بكينا سويًا، كانت الأيام تبدو دافئة رغم المشقة، كنا نمضي بفخرٍ كيف أننا لم نستسلم، كيف أننا قاومنا ليالي الأرق، فكيف للمرء أن يحيا وفي عمقه حُلم؟

صباح الحنين لذكرى زُرعت فينا، للأماكن الذي ضحكنا بها كثيرًا صباح الحُب مرة وألف لكل من كان معنا لكلِ ابتسمنا بحبٍ وبفخرٍ لوجودهم حولنا.

تحاوطك الهلاوس ذاتها
ماذا لو لم يزورنا الزهايمر في نهايةِ المطاف؟
ألا توجد طرق أكثر حنانًا ليتعايش المرء بها مع ذكرياته؟
أليس بائسًا أن تبقى عالقًا في المتاهاتِ نفسها؟
ما زال يراودني سؤال: "كيف يحيا المرء دون الأشياء التي ترك بها قلبه، كيف يمكن لفكرةِ غيابها أن ترافقه إلى الأبد، أليس هناك نهايات للنهاياتِ أيضًا؟"

تغريني رغبة الاختفاء
أن أمضي إلى ما لستُ
أدري!
وأترك خلفي ذاتي
وأمنياتي
آمالي
وكل من أحب
أن أتجرد مني
ومن فرطِ شعوري
أن أتلاشى في الهواء
كالسراب
أن تبتعلني تلك الفجوة
التي لا وجود لها.

بائسٌ يحمل مشقة المضي
في الطرقِ الخاطئة
عائدٌ من حربٍ ترك بها روحه
وحدهُ الأمل من قتله
تسرب في خلاياه
وأنتزع منه الحياة
يتنهد بحمقٍ
يرجوه بخجلٍ
ألا تشرق الشمس مجددًا
أن يرحل في الظلام
دون أمل
أو أحلام
دون ذكرى واحدة
أو لحظة واحدة
تعيده إليه
ويصمت ذهنه.

أليس الأبدية شيءٌ زائف؟
لمَ يبدو هذا الوداع أبديٌّ؟

لطالما كانت مخاوفه تبدو حقيقة لذا كان يعيشها مسبقًا، وكثيرًا ما يؤلمه أن تصبح مخاوفه حقيقية.

أحيانًا أشعر بالرغبةِ بالبكاء كطفلٍ في الطرقات، فيسألني أحدهم: "ماذا تريدين؟"
لأجيب: "أريد أمي"
كثيرًا ما تنتابني لهفة اللقاء كالأطفال بعد غياب صغير، لا شيء يمحق العقل البشري كفكرةِ الموت واختفائهم للأبد!
ثم تخرج سليمًا من مجزرة صداها "كيف عشت عمرًا من دونهم؟"
لا الموتى يعودون، ولا نحنُ نذهب إليهم، كل الذين ابتلعتهم الأرض، ابتلعت معهم أرواحنا، وأورثتنا عنهم الحنين، ليتنا نرحل أو يعودوا.

كانت تبدو كغصة ستلتهمني، كشيء عالق في منتصفِ حنجرتي، شيء يفقدك الرغبة في الحياة، ثم يبهت كل شيء في عينيّك، واحدٌ تلو الآخر الناس الأماكن، المواقف، والحياة، فتبدو الحياة ثقيلة، كان يشبه الموت لكن دون نهاية، يشبه الغرق كأن روحك تطفؤ وتطفؤ لكن لا أمل، كان ثقيلًا على أن يُشرح، عصي الفهم، ثقيل حد الكآبة، وغريب كاللاشيء، ووفي كظلك، كان باهت كالروح، باهت كأحلامه.

ثمة وداعات ناقصة
وأسئلة لا تجرؤ على طرحها خوفًا
وحيرة لا تنتهي
هناك صوت يتردد في داخلك
تصمته ولا يصمت
تدفنه ولا يموت
تخبئه فتصيبك الرجفة
وثمة "لماذا" كبيرة بحجمِ الكون
تحطيك بكل ثانية!

سيخذلك الهواء مجددًا.

لا شيء سوى أن المرء يخذل دائمًا من مصدرِ أمانه..

النسيان مشكلة وعدمهُ مشكلة أيضًا.

كانت المشكلة كلها
في أننا نستيقظ من النوم
أن الهاوية لا تبتلعنا
ولا يلتهمنا الجاثوم
في أننا ننهض
لنعيد الحياة ذاتها
المشاعر التي هربنا منها
والنار التي لا تنطفئ
يزعجنا صوت الحياة المستمر
ضجيجهم يذكرنا بيأسنا
ثم ترى نفسك تغرق في خذلانك
ويتردد صدى في داخلك
"لمَ نستقيظ مجددًا؟"

أماني.

أحدهم يعبر عن حزنهُ بالضحك
والآخر بالبكاء، نارٌ وماء لا يجتعمان.

"لذة النصر"

الإبحار عكس التيار قد يبدو غريبًا، محاولات النجاة كثيرًا، والتوقف أيضًا؛ ثم ينتهي بك المطاف تنازع روحك، تبحث عن طريقِ العودة لتنجو.
الحياة كذلك تشبه الإبحار، مدٌ وجزر، إن لم يكن لك غاية فلن تشعر بلذة النصر.

يتسرب الحماس في أعماقنا، ولهفة اللقاء تزداد يومًا بعد يوم، ضربات القلب أيضًا كأنَّ طبولًا بها تُقرع، كل ذلك حينما يشعر المرء بقربِ حلمه، وأنه سيعانق هدفه، إن الأهداف من تجعلنا نقاوم التيار؛ فننهض بعد كل انهيار، نخطو بثقةٍ أكثر، وتبدو مُعاناة الطريق حربًا تستحق أن تُقام.

يحيا الناس ليصلوا لمرادهم في النهاية؛ ليتذوقوا النهايات السعيدة، يتنهدوا بعد شقاء الرحلة، تنهيدة بهجة وفخر، إنَّ الإنسان دون هدف، يبقى كمن يتخبط بالحياة، لا يعلم أي الطُرق سيمضي، أو إلى أين سيصل؟
يواصل السير دون وجهة، يجد نفسه يستيقظ ذات يوم كئيبًا، يفتش بين ذكرياته، لا شيء يدعو للفخر، لا انتصار هنا؛ ثم تهوى روحه أنه أجرم بحقِ ذاته، ويبقى أسير الحيطان وروحه، يستسلم للحزن والكدر؛ فلا انجازات تواسيه، ولا حلم يستقيظ لأجله؛ فيصبح وكأنَّه سفينة دون دفَة، مهما حاولت الإبحار لن تفلح، ستغرق لا محال، وسيغرق كل ما فيها، كل الآمال التي على متنها أيضًا؛ فيصبح شبيهًا لها، ينتهي به الأمر بين حيطان أربعة، يلوم ذاته، يوبخبها، وتارةً يقسو عليها دون جدوى.

وحدها الأحلام من تجعلنا على قيدِ الأمل، وحدها من تجعلنا نتذوق مرارة الأيام بصبرٍ وثبات، لا يُهزم من ابتغى مقصدًا، يقاوم ثقل المواقف لأجله، ويتخيل لحظة احتضانه بفارغِ الصبر، وينهض كل يوم ينازع الكون ليحصل عليه.

أماني البُريهي.