ما هي اللمسة البلاغية في تقديم الأخ على الأمّ والأب في سورة عبس: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ ◇ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ ◇ وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ} مع كونهما أقرب الناس إلى المرء؟ ونراه يقول في سورة المعارج: {يُبَصَّرُونَهُمْ ۚ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ ◇ وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ}، فلماذا قدّم الإبن على الأخ؟ ولماذا لم يذكر الأم والأب في هذا المقطع ؟
الجواب:
هناك مشهدان مختلفان يتكلّم عنهما المقطعان في السورتين، على ضوئهما يتّضح فارق الذكر والتسلسل بينهما:
المشهد الأول: مشهد الفرار للاعتناء بالنفس لشدّة (الصّاخة) التي تكاد تأخذ بسمع الإنسان، وتنسيه كلّ من حوله، وهذا المشهد يمثّله المقطع المذكور في سورة عبس.
المشهد الثاني: مشهد الافتداء؛ حيث هناك مجرمٌ أبصر شركاءه وأحمّاءه، وعاين ما هم عليه من العذاب، فيتمنّى أنْ يفتدي نفسه من هذا العذاب بأحبّ الناس لديه. وهذا المشهد يمثّله المقطع المذكور في صورة المعارج.
⊙ فمع اختلاف المشهدين، فمشهد الفرار يقتضي التدرّج من الأقلّ ملازمةً إلى الأكثر، فالأخ وإنْ كنّا نلازمه في حال الصبا، لكن في الأعم الأغلب نفترق عنه عند اشتداد العود في هذه النشأة، فالفرار منه في تلك النشأة لا يكون فيه مزيد صعوبة، وهذا بخلاف من كان أكثر ملازمةً ولصوقاً بدءاً بالوالدين، وانتهاء بالزوجة والأولاد الذين كانوا يمثّلون قمّة الملازمة في هذه النشأة، وهذا كناية عن شدّة تلك الصاخة التي جعلتنا ننسى كلّ شيءٍ حولنا؛ لنهتمّ بأنفسنا، فكأنّه قال: يوم يفرّ المرء من أخيه، بل ومن أمّه وأبيه، بل ومن صاحبته وبنيه، فاقتضى مشهد الفرار في أجواء من الارتعاب والخوف أنْ نبدأ من الأقلّ ملازمة إلى الأكثر.
⊙ وأمّا مشهد الافتداء فيعاكسه تماماً؛ حيث إنّ التصوير الكنائي لشدّة العذاب يقتضي أنْ نقدّم أغلى الأشياء على قلوبنا، فبدأ بفلذة الأكباد، وختم بشقيق الروح، وتوسّط بشريك العمر. وفي مقام الافتداء لم يذكر هذا المقطع الأبَ والأم؛ للإشارة إلى عظيم منزلتهما عند الله فلا يجرؤ على أنْ يفتدي بهما؛ لأنّهما عند الله تعالى قد اقترن الإحسان إليهما بعبادته تبارك وتعالى: {وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً}، وإنْ كان قد يفرّ منهما كما قد يفرّ العبد من سيّده.
https://t.me/soundquran77