جامع اﻹيمان الشيخ محمد نعيم عرقسوسي @alemanm Channel on Telegram

جامع اﻹيمان الشيخ محمد نعيم عرقسوسي

@alemanm


الشيخ محمدنعيم عرقسوسي

جامع اﻹيمان الشيخ محمد نعيم عرقسوسي (Arabic)

تقدم قناة "جامع اﻹيمان الشيخ محمد نعيم عرقسوسي" على تطبيق تيليجرام محتوى ديني وتعليمي يقدمه الشيخ محمد نعيم عرقسوسي، الداعية والداعم الإسلامي المعروف. يمكنكم الاستماع لمحاضرات، تلاوات، ونصائح دينية من خلال هذه القناة. ستجدون فيها أيضاً تفسيراً للقرآن الكريم وشروحات للأحاديث النبوية الشريفة. إذا كنتم تبحثون عن مصدر للتوجيه والإلهام الديني، فإن هذه القناة هي الخيار المثالي لكم. انضموا اليوم واستفيدوا من المعرفة والحكمة التي يقدمها الشيخ محمد نعيم عرقسوسي من خلال هذه القناة المميزة. فتابعونا الآن ولا تفوتوا فرصة الاستفادة من هذا الثراء الديني.

جامع اﻹيمان الشيخ محمد نعيم عرقسوسي

13 Jan, 20:11


جلسة الصفا

10 رجب 1446
10 كانون الثاني 2025

لفضيلة الشيخ
محمد نعيم عرقسوسي

بعنوان:
الشيخ سارية الرفاعي
الرجل الذي افتقدناه

بسم الله الرحمن الرحيم

خسرنا في هذا الأسبوع قامة كبيرة في العلم والعمل والدعوة والتربية وأعمال الخير المتنوعة، ترك آثاراً عظيمة طيبة في هذه المجالات كلها، ألا وهو فضيلة الشيخ سارية الرفاعي رحمه الله تعالى.
والذي ينبغي أن نعرفه، لنُرَبِّي أولادنا وشبابنا على مثاله ليكونوا بنائين للبلاد نافعين للعباد، هو أن نعلم كيف نشأ هذا الرجل وكيف صنع هذا الصنع ورُبِّيَ هذه التربية العالية حتى كان منه ما كان.

ولد الشيخ سارية الرفاعي سنة 1948م لأسرة علمية مرموقة، وهو ابن الشيخ الكبير العلامة عبد الكريم الرفاعي صاحب النهضات العلمية والنشاطات الدعوية في جامع زيد بن ثابت الذي امتد أثره إلى عديد من المساجد في دمشق وريف دمشق، والذي سنفرد له ترجمة وافية بإذن الله تعالى.
نشأ الشيخ سارية في كنف والده وتحت رعايته وبتوجيهاته وإرشاداته، وأخذ عنه العلوم الشرعية والعربية وعن كبار تلاميذه في مسجد زيد بن ثابت، ثم انتسب إلى معهد الجمعية الغراء في مراحله الدراسية كلها، ودخل الثانوية الشرعية التابعة لها، فتتلمذ على كبار العلماء فيها إلى أن نال الشهادة الثانوية منها عام 1966 م.
وكان من شيوخه في هذا المعهد كبار العلماء الذين أثروا علومه ومعارفه في شتى فنون العلم، منهم الشيخ محمد كريم راجح في مادة التفسير، والشيخ عبد الرزاق الحمصي في مادة الفقه الشافعي والشيخ نايف العباس في مادتي التاريخ والسيرة النبوية، والشيخ خالد الراوي في مادة اللغة العربية، والشيخ سعيد الطنطاوي، شقيق الشيخ علي الطنطاوي، في مواد الكيمياء والفيزياء والإعلام، والشيخ محمد صالح فرفور في مادتي البلاغة والخطابة، وقرأ كذلك على مفتي سورية آنئذٍ الشيخ الطبيب أبي اليسر عابدين الفقه الحنفي، ومغني اللبيب في النحو.
كما أدرك طبقة عالية من علماء الشام وجالسهم، كالشيخ أبي الخير الميداني والشيخ إبراهيم الغلاييني والسيد مكي الكتاني والشيخ حسن حبنكة والشيخ عبد الوهاب الحافظ المعروف بدبس وزيت وغيرهم.
وهذا يُشير إلى أنك إذا أردت أن يكون ولدك كبيراً في العلم والمعرفة أو كبيراً في الصناعة أو في أي مجال من مجالات الحياة، فينبغي أن تضعه منذ نعومة أظفاره عند الكبار في العلم والتربية والصناعة، لأن الكبير ينتج كبيراً، ولأن العظيم ينتج عظيماً، ولأن البطل ينتج بطلاً، أما الذين هم محدودو المعرفة قليلو الخبرة، فإنهم لا يمكنهم صنع رجال كبار لأن فاقد الشيء لا يعطيه، وفي التاريخ شواهد كثيرة على ذلك.
وأعظم الأمثلة على الإطلاق هو سيدنا محمد ﷺ الذي تناهت إليه العظمة البشرية، فقد ربى أعظم رجال في التاريخ وهم صحابته الكرام رضوان الله تعالى عليهم، والذين كل واحد منهم هو أمة وحده، والذين قادوا الإنسانية إلى ذروة عزها ومجدها وحضارتها.
ولم يكتف الشيخ سارية بما حصَّله من هؤلاء العلماء الكبار، فقد كان نهمه إلى العلم يدفعه إلى أن ينهل المزيد منه، فسافر عام 1966 إلى مصر، والتحق بالأزهر الشريف وتخرج في كلية أصول الدين عام 1971م، ثم حصل على درجة الماجستير في التفسير عام 1977م، وقد تتلمذ في الأزهر على كبار علمائه المشهود لهم بالأستاذية والتمكن في العلم مثل الشيخ عبد الحليم محمود شيخ الأزهر الذي كان عميداً لكلية أصول الدين والشيخ عبد الغني عبد الخالق وغيرهم.
وكان قد تسلَّم وظيفة الإمامة والخطابة في مسجد زيد بن ثابت بعد وفاة والده الشيخ عبد الكريم الرفاعي عام 1973م.
كما تم تعيينه مدرساً في دائرة الإفتاء العام منذ عام 1973.
وكان في عام 1965 قد أرسله والده الشيخ عبد الكريم بطلب من الشيخ بشير الشلاح رحمه الله تعالى، الذي كان رئيس لجنة بناء جامع القصور، أرسله إلى جامع القصور في منطقة التجارة ليكون إماماً فيه، فأسَّس في الجامع بالإضافة إلى إمامته عملاً دعوياً مباركاً، وأنشأ حلقات علمية من الشباب مع ثلَّة من إخوانه ولم يتجاوز السابعة عشرة من عمره.
إن نشوءه في كنف والده الداعية المربي، جعل حب الدعوة يسري في دمه، وصارت هدفاً من أهدافه ومن طموحاته و أمنياته.
ولما رجع إلى جامع زيد عقب وفاة والده تابع كذلك نشاط والده في التعليم والتربية والدعوة فتوسعت لديه الحلقات العلمية، وازداد إقبال الشباب على المسجد وأخذ يضمهم إلى حلقات العلم في الفقه وأصوله والعقيدة والتفسير والحديث واللغة العربية وغيرها، وكان يضع كل طالب فيما يناسبه من المستوى العلمي، فثمة حلقات للعمال، وأخرى لطلاب المدارس، وغيرها للجامعيين، وهكذا، بالإضافة إلى الدرس العام الذي خلَف فيه أباه والذي كان يوم الثلاثاء بين المغرب والعشاء.

جامع اﻹيمان الشيخ محمد نعيم عرقسوسي

13 Jan, 20:11


وفي عام 1981 هاجر الشيخ من دمشق إلى المدينة المنورة وذلك إثر تعرضه إلى ضغوطات من النظام، واغتنم وجوده في المدينة المنورة فجالس هناك ثلة من العلماء والصالحين كالشيخ أحمد عبد العزيز الشَّنْقيطي والشيخ محمد نمر الخطيب وغيرهم.
وبقي في مهجره ثلاث عشرة سنة حيث رجع إلى دمشق عام 1993، وتسلم مرة أخرى منصب الإمامة والخطابة في مسجد زيد بن ثابت، ثم ازداد نشاط الأعمال العلمية والدعوية في المسجد بصحبة ثلة من إخوانه وطلابه، حيث كان الشيخ حركة لا تهدأ في بث العلم وتأسيس الحلقات العلمية، وفي عام 1994 قام الشيخ بتوسيع المسجد بجهود بعض التجار الأبرار، وأسس فيه معهد الفرقان للإناث.
وبالإضافة إلى نشاطه العلمي والتربوي والدعوي كانت نفسه تتوق إلى أعمال الخير و البر وقد كان قلبه رقيقاً يتألم لأحوال الفقراء والمساكين، فهداه تفكيره إلى تأسيس جمعية صارت من أهم الجمعيات في دمشق وهي جمعية حفظ النعمة، هذه الجمعية الرائدة التي كان لها نشاط في مجالات عديدة مما يتصل بحاجات الفقراء والمساكين من الغذاء إلى الكساء، إلى الدواء إلى الأثاث، وذلك حسب ما يلي:
فقد بدأت انطلاقة هذه الجمعية عام 2003 م على إعلان مشروع الغذاء، الذي كان يهدف إلى جمع ما يفضل من الطعام في المناسبات والولائم، ليتم استصلاحه وإعادة ترتيبه، وتقديمه من جديد للفقراء والمحتاجين, وهكذا تُحفظ النعمة ويُكفى المحتاجون، ثم تطوَّر الأمر إلى إعداد مطبخ كبير يصنع فيه الطعام ويوزع على الأسر الفقيرة.
وفي عام 2004 أُعلن عن مشروع الكساء، حيث تُجمع الألبسة الفائضة عن الحاجة وتوزَّع إلى أولي الحاجة، ثم توسَّع المشروع إلى إعطاء الملابس الجديدة من المصانع، ثم تطوَّر تطوراً آخر فصارت هنالك ورشات خاصة للخياطة، حيث يتبرع التجار بالأقمشة ويُصار إلى خياطتها وتوزيعها.
وفي عام 2005 أُعلن عن مشروع الدواء لجمع الأدوية الصالحة وفرزها والاستفادة منها.
وفي عام 2006 أُعلن عن مشروع الأثاث وذلك لخدمة الشباب الفقراء المقبلين على الزواج لتجهيز بيوتهم بما يحتاجون إليه من أثاث ونحوه.
وفي عام 2007 أُعلن عن مشروع التميُّز في كفالة اليتيم، بهدف كفالة الأيتام ماليًّا وتوجيههم تربويًّا وأخلاقيًّا ومتابعتهم دراسياً، مع العناية كذلك بالأمهات الأرامل، وقد تمت رعاية ما يزيد على ثلاثين ألف يتيم في دمشق وريفها.
لقد كان فكر الشيخ سارية رحمه الله تعالى فكراً مبدعاً ولَّاداً، فكان في كل عام تتولَّد معه فكرة جديدة رائدة في مشروع حفظ النعمة، كل ذلك بسبب شدة اهتمامه بتأمين حاجات الفقراء.
وفي الحقيقة أن هذا هو ما يهمُّ المؤمن الصادق، فالمؤمن ينطبق عليه قول النبي ﷺ:
مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى و السهر.
المؤمن الصادق لا يصدر عنه إلا الخير للأمة جمعاء، يحب لهم الأمان والعافية والكفاية، همه واهتمامه في سد حاجاتهم والقيام بشؤونهم وأن يراهم سعداء ترتسم بسمة الرضا والسرور على وجوههم، لأنه يحب الخير لهم جميعاً، يذكرنا هذا بقول عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنه:
إني لأسمع بالغيث قد أصاب البلد من بلاد المسلمين فأفرح به وما لي به سائمة، و إني لأسمع بالحاكم من حكام المسلمين يعدل في حكمه فأفرح ولعلِّي لا أقاضي إليه أبداً.
هذه هي طبيعة المؤمن وأخلاقه، يحب الخير للأمة ويفرح أن يعمها الخير والفضل، وغير المؤمن لا يحب إلا نفسه ولا يحرص إلا على ملء جيبه وثروته وماله.
المؤمن يقدم مصلحة الأمة العامة على مصلحته الخاصة، وغير المؤمن لا يهمه إلا مصلحته الشخصية الخاصة.
المؤمن يضع نفسه في خدمة الأمة، وغير المؤمن يريد أن يضع الأمة في خدمته.
المؤمن ينفق من جيبه وماله ليسعد الناس، وغير المؤمن يأخذ من جيوب الناس وأموالهم ليَسْعَد هو وأسرته.
ولمزيد من التأسيس العلمي والترسيخ المعرفي أسس الشيخ سارية مكتب التحقيق والتأليف، حيث قام المكتب بإعداد منهج للدورات الصيفية في المساجد تحت عنوان "الثقافة الإسلامية" لعدة مستويات.
وأسس مركز زيد بن ثابت للقيام بأنشطة علمية ودعوية وإعلامية، وكان من أنشطة المركز إطلاق قناة الدعوة الفضائية التي قام النظام البائد آنذاك بإغلاقها بعد مضي أشهر معدودة على إطلاقها.
وكان للشيخ سارية عمله التجاري الخاص به ليأكل من عمل يده، فبدأ بالعمل مبكراً في تجارة الكتب، فكان يشتري الكتب من مصر ويبيعها في الشام، ثم أسس مكتبة الغزالي للطباعة والنشر قبالة مسجد زيد بن ثابت عام 1969م التي أصدرت العديد من الكتب والدراسات العلمية والأدبية والثقافية.
وفي بداية الحراك الثوري عام 2011، وقف الشيخ سارية ضد النظام فيما كان يرتكبه من فظائع وأعلن من على منبره إنكاره لما يقوم به من اقتحام المدن وغير ذلك، ثم اضطرته الظروف إلى مغادرة البلاد في عام 2012، حيث هاجر أولاً إلى مصر، وأقام في القاهرة أكثر من عام لم يفتر فيه عن العمل والبذل، إذ كانت له مساهمات تعليمية مجتمعية بإنشاء المدارس وإرسال المعونات إلى

جامع اﻹيمان الشيخ محمد نعيم عرقسوسي

13 Jan, 20:11


مخيَّمات اللاجئين.
وفي عام 2013 انتقل إلى تركيا واستقر في اسطنبول، وأخذ بإقامة الدروس العلمية والدعوية وتأسيس عدد من المجالس الإسلامية.
وفي الحقيقة أن الذين كانوا ضد النظام في تلك الفترة عدد كبير، منهم من أعلن ومنهم من أسرَّ خشية بطش النظام ومنهم من هاجر و سافر، ومنهم من لم تسمح ظروفه أو اقتضت المصلحة أن يبقى في البلاد، ولم يكن من الشيخ سارية ولا من أخيه الشيخ أسامة الرفاعي لوم أو انتقاد لمن بقي في البلد، بل على العكس من ذلك، كان منهم الثناء والدعاء لمن بقي في البلد يتابع المسيرة العلمية والواجب الدعوي في التوجيه والإرشاد، وكم وصلنا منهم ثناء على الجهود التي يبذلها الإخوة الدعاة هنا ودعاؤهم لهم بالتوفيق، وكانوا يسمونهم: المرابطين ويدعون لهم بالثبات والقبول.
وفي الحقيقة فقد أعطوا بذلك درساً بليغاً في أنه لا ينبغي أن يلوم من هاجر من لم يهاجر، ولا يصفه بعبارات التخاذل أو الخنوع للنظام وغير ذلك مما قد نسمعه من بعض الإخوة العائدين من الشمال.
لقد أكرمنا الله تعالى بهذا الفتح المبين وبهذا العهد الجديد، فالواجب علينا لحماية هذا الإنجاز العظيم، أن نكون يداً واحدة وعلى قلب رجل واحد، وأن نطوي خلافات الماضي، ونجتمع على كلمة واحدة، وهو ما يأمرنا به الله سبحانه وتعالى لنحافظ على هذا النصر المؤزر، وهو القائل:
وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ
وإن اجتماع الكلمة وطي الخلافات هو من شكر هذه النعمة التي أنعم الله تعالى بها علينا، والله يسعدنا ( لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ).

لقد كان الشيخ سارية رحمه الله تعالى على جانب كبير من الصلاح والعبادة، كان كثير الذكر وتلاوة القرآن الكريم.
كان لطيف المعشر حسن الخلق، دائم الابتسامة ليِّن الجانب رقيق القلب، كريماً مضيافاً محباً للإصلاح بين الناس، يأنس به من يزوره وتترك زيارته في النفس أثراً طيباً وذكرى حسنة.
وكان مع ذلك صابراً محتسباً، راضياً بقضاء الله وقدره، ففي عام 2014 أصيب بجلطة دماغية أدت إلى شلل الطرف الأيسر منه، أقعده عن الحركة مدة عشر سنوات، لكن نشط قلمه هذه الفترة، فدوَّن مذكراته العلمية والدعوية والسياسية في جزئين وألَّف رسالة لطيفة سماها الأربعون السنية في ثلاثيات الأحاديث النبوية، وغيرها من الرسائل النافعة.
وفي السادس من شهر رجب من هذا العام 1446 هجرية والموافق للسادس من كانون الثاني لعام 2025 م فاضت روحه إلى باريها، وانتقلت إلى جوار ربها.
فاللهم أحسن وفادته عليك، و أكرم نزله واغفر له، وارفع درجته في عليين.
ولقد كانت جنازته الحاشدة التي امتلأ بها الجامع الأموي على سعته ورحابته دليلاً عملياً على أن الأمة تحب علماءها، بل كانت استفتاءً شعبياً على أن الأمة تحب الإسلام وتريد الإسلام، لأن في الإسلام كل ما تصبو إليه النفس من الحرية والكرامة والعدالة والمساواة، وتشجيع المواهب وتقديم أصحاب الكفاءات على اختلاف انتماءاتهم ومشاربهم ومعاملة الناس على أساس المواطنة بين جميع أفراد الأمة دون تمييز بينهم، إلى آخر ما في الشريعة من مزايا وفضائل ومكارم.

نسأل الله تعالى أن يعوض المسلمين خيراً، ويجعل الخير في أولاده وذريته وطلابه.

اللهم أُأْجرنا في مصيبتنا وعوضنا خيراً منها يا رب العالمين.

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

و الحمد لله رب العالمين.

جامع اﻹيمان الشيخ محمد نعيم عرقسوسي

08 Jan, 13:11


جلسة الصفا

25 جمادى الآخرة 1446
27 كانون الأول 2024

لفضيلة الشيخ
محمد نعيم عرقسوسي

بعنوان:
*البغي أنواعه وعواقبه*

بسم الله الرحمن الرحيم

كنا نقول دائماً: الله أكبر على كل من طغى وبغى وتجبَّر، يعني أن الله تعالى قادر على رد بغيه وطغيانه وتجبره، وقادر على أن يقمعه وينتقم منه، كما قال تعالى عن فرعون وجنوده:

*وَفِرۡعَوۡنَ ذِي ٱلۡأَوۡتَادِ (10) ٱلَّذِينَ طَغَوۡاْ فِي ٱلۡبِلَٰدِ (11) فَأَكۡثَرُواْ فِيهَا ٱلۡفَسَادَ (12) فَصَبَّ عَلَيۡهِمۡ رَبُّكَ سَوۡطَ عَذَابٍ (13) إِنَّ رَبَّكَ لَبِٱلۡمِرۡصَادِ *(14)
وهذه الآية وغيرها تشير إلى أن فرعون لم ينفرد بالبغي والطغيان، وهذا الذي كان في النظام البائد، كان البغي والطغيان منتشراً من رأس النظام إلى الأذناب والأزلام والسجانين، فقد انكشف للناس أنهم فعلوا من فظائع التعذيب ووحشيته ما تشيب لهوله سود النواصي، وتتقطع له الأكباد وتقشعر منه الأبدان، وما لا يتصور في الخيال ولا يخطر على بال، فحقت عليهم جميعاً كلمة العذاب، ولحق بهم الوبال والنكال جزاء ظلمهم وطغيانهم وبغيهم، كما قال تعالى عن فرعون وجنوده:
*وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ * فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ*
ولكلمة بغي في اللغة العربية معانٍ عديدة، منها معنى الطلب، كقوله تعالى: (ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ) والبغية: الحاجة، إلى غير ذلك من المعاني.
والمراد بالبغي هنا: التعدي والظلم، وهو ما كان عليه فرعون وأمثاله ونظراؤه.
ويأتي البغي بمعنى الاستطالة على الناس والتكبر عليهم وكل ما جاء في وصف فرعون ينطبق على المخلوع الفار، وهو المراد بقوله تعالى:
*قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ*

وذكر الله تعالى مثلا لهذا البغي من التكبر والاستطالة على الخلق بقارون، فقال تعالى:
*إنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآَتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ*
قال الألوسي:
فبغى عليهم أي طلب الفضل عليهم وأن يكونوا تحت أمره أو تكبر عليهم، وطلب ما ليس حقَّه، بغى عليهم معتداً بثروته الفلكية متعاظماً بماله الكثير الوفير.
وقولهم له: (لا تفرح) أي فرح البطر والكبر والزهو، وهو المفرط المذموم.
ثم قالوا له:
*وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ*
فردَّ عليهم بما أوتي من صلف و كبر وبغي، ( قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَىٰ عِلْمٍ عِندِي)
فردَّ الله تعالى عليه فقال:
*أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا ۚ وَلَا يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ*

ثم أمعن قارون في بغيه وتكبره واستطالته (فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ) فما أمهله الله تعالى هنا فقال:
*فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ*
وفي هذه الآية ما يشير إلى أن الله تعالى قد يعجل لمن بغى العقوبة في الدنيا، ويؤيد ذلك ما رواه الإمام أحمد والبخاري في الأدب المفرد والترمذي وابن ماجه وغيرهم من حديث سيدنا أبي بكر رضي الله تعالى عنه أن رسول الله ﷺ قال:
*ما من ذنب يعجل الله لصاحبه العقوبة في الدنيا مع ما يدخره له في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم*.
وقطيعة الرحم من صور البغي وهو من ذكر الخاص بعد العام.
وروى الإمام الترمذي وابن ماجه من حديث السيدة عائشة رضي الله تعالى عنها:
*أسرع الخير ثواباً البر وصلة الرحم، وأسرع الشر عقوبة البغي وقطيعة الرحم.*

وأخرج البخاري في الأدب المفرد عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه قال:
لو بغى جبل على جبل لدكَّ الباغي.
ومن البغي نقض المرء ما عاهد عليه الله ووعد به من نفسه أن يكون شاكراً لله ملتزماً بشرعه، فذكر الله تعالى هذا النوع من البغي في قوله عز وجل:
*هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ۖ حَتَّىٰ إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ ۙ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنجَيْتَنَا مِنْ هَٰذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ فَلَمَّا أَنجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي

جامع اﻹيمان الشيخ محمد نعيم عرقسوسي

08 Jan, 13:11


الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ ۗ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَىٰ أَنفُسِكُم ۖ مَّتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ*

فهؤلاء لما جاءهم الموج من كل مكان واعتقدوا اعتقاداً راجحاً أنهم هلكوا بإحاطة الموج بهم من كل جانب، دعوا الله مخلصين له الدين قائلين: (لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ) أي نقسم لك يا ربنا لئن أنجيتنا من هذه التهلكة أو العاصفة لنكونن لك من جماعة المؤمنين الشاكرين لنعمائك لا نكفر منها شيئاً ولا نشرك بك أحداً، ولكنهم لما أنجاهم الله، إذا هم نكسوا على رؤوسهم إذا هم يبغون في الأرض، إذا هي الفجائية أي إذا هم يفاجئون الناس في الأرض التي هبطوا إليها بالبغي عليهم بالظلم والعدوان والإفساد يمعنون في ذلك ويصرون عليه، وقوله (بِغَيْرِ الْحَقِّ) صفة كاشفة للواقع للتذكير بقبحه وسوء حال أهله.
وما أعظم قول الله تعالى تعقيباً على بغيهم وعدوانهم وظلمهم، حين قال: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَىٰ أَنْفُسِكُمْ)، وهذا التفات إلى مخاطبة البغاة أينما كانوا وفي أي زمان وجدوا يقول لهم: أيها الضالون عن رشدهم، كفاكم بغياً على المستضعفين منكم وغرورا بكبريائكم وقوتكم، إنما بغيكم في الحقيقة على أنفسكم، لأن عاقبة وباله عائدة عليكم، ولأن من تبغون عليهم هم من قومكم ومن أبناء جنسكم، أما قالوا: على الباغي تدور الدوائر، عاجلاً أم آجلاً وفي هذه الآية أن الله تعالى يرجع ضرر الباغي على نفسه لكي يعتبر البغاة والظالمون وقد أخرج الحاكم والبيهقي في شعب الإيمان عن أبي بكرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله ﷺ:
لا تبغِ ولا تكن باغياً، فإن الله يقول: إنما بغيكم على أنفسكم.
وروي عن محمد بن كعب القرظي، وعن مكحول الدمشقي قال:
ثلاث خصال من كن فيه فهي راجعة على صاحبها: البغي والمكر والنكث، ثم قرأ:
يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَىٰ أَنْفُسِكُمْ
وقرأ:
وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ
وقرأ:
فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَىٰ نَفْسِهِ

قال صاحب تفسير المنار:
وقائع التاريخ تفسر لنا أن البغي وهو من أخص ضروب الظلم للناس يرجع إلى فاعله، ذلك بأنه سبب من أقوى أسباب العداوة والبغضاء بين الأفراد وإيقاد نيران الفتن والثورات في الأقوام، فالفرد الذي يبغي على مثله يخلق له بغيُه عدواً أو أعداء ممن يبغي عليهم وممن يكرهون البغي وأهله، فوجود الأعداء والمبغضين ضرب من ضروب العقوبة، وإن لم يستطيعوا إيذاء الباغي لعجزهم، فكيف إذا قدروا وفعلوا وهو الغالب، وأما بغي الملوك والحكام على الأقوام والشعوب، فأهون عاقبته عداوتهم والطعن عليهم، وقد تُفضي إلى اغتيال أشخاصهم أو إلى ثلِّ عروشهم والقضاء على حكمهم بثورة من الشعب تستبدل بها عرشاً بعرش أو نوعاً من الحكم بنوع آخر، إلى آخر ما قال.
ومن البغي الاعتداء على حقوق الآخرين واقتطاع شيء منها أو اغتصابها، من ذلك ما قصه الله علينا في القرآن الكريم، فقال تعالى:
*وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ إِذْ دَخَلُوا عَلَىٰ دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ ۖ قَالُوا لَا تَخَفْ ۖ خَصْمَانِ بَغَىٰ بَعْضُنَا عَلَىٰ بَعْضٍ فَاحْكُم بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَىٰ سَوَاءِ الصِّرَاطِ، إِنَّ هَٰذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ*

أَكْفِلْنِيهَا (هبها لي).
أي أظهر في الكلام عزة واشتد عليَّ وتطاول، فقال سيدنا داود:
*لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَىٰ نِعَاجِهِ ۖ وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ*ۗ

ومن البغي إتهام الآخرين والافتراء عليهم بما ليس فيهم، وقد حلا لبعض الناس في هذه الأوقات، أن يقوموا بتصفية الحسابات بينهم وبين من يعادونهم أو يختلفون معهم، فيلصقون بهم من التهم وخاصة السياسية منها، ما هم منها براء وذلك للتشفي منهم، فليتق الله هؤلاء الأشخاص وليكفوا عن الافتراء وإلصاق التهم التي تثير العداوات، و تلحق بالمفترى عليهم أضرارا جسيمة مادية ومعنوية، وعلى الذين يعلقون على ذلك أن يكفوا عن تعليقاتهم التي تصب الزيت على النار لزيادة الاشتعال والفتنة.
ومن البغي نشر الأخبار الكاذبة التي تشعل الفتن وتثير البعض الذي قد يثور دون التحقق من صحة هذه الأخبار التي ما نشرت إلا من أجل الفتنة والإثارة، ولا يجوز لمن ورده خبر ما أن يسارع إلى نشره دون التحقق من مصداقيته، بل الواجب محو كل خبر يثير فتنة ويخلق مشكلة.

جامع اﻹيمان الشيخ محمد نعيم عرقسوسي

08 Jan, 13:11


ومن البغي الفظيع الشنيع نشر ما يثير الطائفية بين أفراد الأمة وأبناء الوطن الواحد، ولما يتبع إثارة النعرات الطائفية من خصومات ونزاعات قد يؤدي إلى الاقتتال وسفك الدماء.
نحن في سورية وفي بلد الشام ومن قديم الزمان، كنا لا نعرف هذا التصنيف الطائفي، وأهل السنة في سورية مسالمون لجميع الطوائف متعايشون معهم يتعاملون مع الجميع دون تفريق بينهم، بينهم شراكات تجارية وعلاقات اجتماعية، المسلم يعيش مع المسيحي بسلام ووئام، حتى إن أولادنا لا يعرفون معنى أسماء الطوائف الأخرى بصرف النظر عن تسمياتها، لأننا كنا لا نتداول ذلك على الإطلاق، كنا سوريين نعيش في سورية دولة المواطنة لجميع أفرادها، وليس لطائفة أو فئة الحق بهذا الوطن دون غيرها من الطوائف والفئات، فكل من يعزف على وتر الطائفية إنما هو باغٍ وظالمٍ ومعتدٍ، لا يريد لوطننا الاستقرار والازدهار ولا لشعبنا الطمأنينة والأمان.
وهناك صور اجتماعية تُعَدُّ من صور البغي الذي لا يجوز كذلك:
فإلقاء الأوساخ والقاذورات في الطريق من البغي والاعتداء على الحق العام، ولذلك فإن الإمام البخاري في كتابه الأدب المفرد وعندما ذكر باب البغي، جعل من صوره إلقاء الأذى في الطريق، فأورد حديث النبي ﷺ:
*الإيمان بضع وستون شعبة، أعلاها وأفضلها قول: لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق*.
وذلك ليُشير أن إلقاء الأذى في الطريق هو من البغي.
حتى أن من البغي تجاوز الإشارة الحمراء لأنه اعتداء على حق الغير، ولأن فيه تعرضاً لوقوع حوادث لا تحمد عقباها.
فكل إخلال بالنظام العام هو من البغي لأنه يخلق الفوضى والاضطراب.
ومن البغي، التاجر الذي يربح الربح الفاحش، لأنه تعدى الربح المعقول والمقبول، أو يحتكر المواد الضرورية التي يحتاجها الناس.
والطبيب والحرفي الذي يأخذ أجرة فاحشة ولا سماحة لديه ولا رحمة لديه.
ومن البغي إيذاء الرجل لزوجته وإيذاء المرأة لزوجها، وهذا يحتاج إلى بحث مفصل نذكره في وقت آخر إن شاء الله تعالى، قال تعالى:

*فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا*

لذلك حرم الله تعالى البغي بجميع صوره وأنواعه وذلك في آية جامعة جمعت أصول الشريعة، فقال تعالى:
*إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ*

وهذه الآية تحتاج إلى وقفة كذلك، لعل ذلك يكون في وقت آخر إن شاء الله تعالى.

اللهم إنا نعوذ بك من أن نَظلم أو أن نُظلم.

اللهم انصرنا على من بغى علينا يا رب العالمين


وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
و الحمد لله رب العالمين.

جامع اﻹيمان الشيخ محمد نعيم عرقسوسي

08 Jan, 12:09


مِّلَّةَ أَبِيكُمۡ إِبۡرَٰهِيمَۚ هُوَ سَمَّىٰكُمُ ٱلۡمُسۡلِمِينَ مِن قَبۡلُ.
ومن المفارقات اللطيفة أن اختلاف الآراء والأفكار لا يكون بين شخص وآخر فقط بل قد يكون بين الشخص وبين نفسه، فيختلف فكره من زمن لآخر، ويغير بعض آرائه السالفة التي كان يظنها لا تتغيَّر، وقد قال عليه الصلاة والسلام:
*إني والله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيراً منها، إلا كفَّرت عن يميني و أتيت الذي هو خير*

وقد يختلف الحكم في قضية واحدة بين نبيين كريمين، كما حصل مع سيدنا داود وسيدنا سليمان عليهما السلام، فقد اجتهدا في الحكم على قضية واحدة، واختلفا في الحكم والرأي، وذكر الله تعالى هذه القضية في قوله عز وجل:
وَ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ(78)ففَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا
والصحابة رضوان الله تعالى عليهم اختلفوا في كثير من العلل النفسية، فقد روى الإمام البخاري ومسلم عن بإسناديهما إلى شقيق بن سلمة قال: كنت جالساً مع أبي مسعود الأنصاري وأبي موسى الأشعري وعمار بن ياسر رضي الله تعالى عنهم، فقال أبو مسعود لعمار بن ياسر: ما رأيت منك شيئاً منذ صحبتَ النبي ﷺ ، أعيبَ عندي من إسراعك في هذا الأمر(يقصد متابعته لسيدنا علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه في موقفه و في خروجه معه فى موقعة الجمل)، فقال عمار بن ياسر: يا أبا مسعود، وما رأيت منك ومن صاحبك هذا منذ صحبتما النبي ﷺ أعيبَ عندي من إبطائكما عن هذا الأمر.
ثم قال أبو مسعود وكان موسراً: يا غلام هاتِ حُلَّتين، فأعطى إحداهما أبا موسى والأخرى عماراً، و قال: روحا فيها إلى الجمعة.
فعمار بن ياسر كان يرى رأي علي بن أبي طالب، وأبو مسعود وأبو موسى كانا لا يريان رأيه، ومع اختلاف رأييهما واجتهاديهما بقيت الإخوة بينهم والمودة والمحبة.
إن أعداء الأمة المتربصين بها لا ينفذون إلى الأمة ليُعملوا فيها سهامهم إلا من خلال تفرق أفرادها ونزاعاتهم وخصوماتهم، والتاريخ حافل بالأدلة والشواهد على أن قوة الأعداء إنما تكون بسبب ضعف الأمة وتنازعهم.
وفي وثيقة محفوظة بالمركز العام للوثائق بلندن ورد تقرير وزير المستعمرات البريطانية لرئيس حكومته بتاريخ 9/1/1938 يقول فيه:
إن الحرب علَّمَتْنا أن الوحدة الإسلامية هي الخطر الأعظم الذي ينبغي على الإمبراطورية البريطانية أن تحذره وتحاربه، إن سياستنا تهدف دائماً وأبداً إلى منع التضامن بين المسلمين، ويجب أن تبقى سياستنا كذلك.
وفعلاً هذا الذي انتهجوه وسلكوه.

كانوا يشجعون الفرق الضالة كالقاديانية هم زرعوها وسقوها ولا يزالون إلى اليوم يدعمونها، هم زرعوا هذا الكيان الغاصب المدعو إسرائيل في بلادنا لبثِّ التفرقة بين أفراد الأمة، و سياستهم أصلاً هي سياسة التفرقة وهي سياسة الشيطان، فقد قال تعالى:
إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ
معنى ذلك أن كل من يريد أن يزرع الكراهية ويوقع العداوة والبغضاء بين المسلمين هو شيطان، وكل من يسعى إلى تفريق الكلمة وشقِّ الصف هو شيطان بتعريف الله عز وجل.
والله تعالى حذرنا في آيات عديدة من التفرق والاختلاف فقال تعالى:
وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ ۚ

وقال:
إِنَّ ٱلَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمۡ وَكَانُواْ شِيَعٗا لَّسۡتَ مِنۡهُمۡ فِي شَيۡءٍۚ

وقال:
أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ ولا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ

قال الإمام الرازي:
اعلم أن المراد من الآية الحثُّ على أن تكون كلمة المسلمين واحدة وألا يتفرقوا فيه.

قال القاضي عياض:
والألفة إحدى فرائض الدين وأركان الشريعة ونظام شمل الإسلام.

نقل الحافظ الذهبي في سير أعلام النبلاء عن أبي موسى يونس بن عبد الأعلى الصدفي المصري أحد أصحاب الإمام الشافعي، أنه قال: ما رأيت أعقل من الشافعي ناظرته يوماً في مسألة، ثم افترقنا، ثم لقيني فأخذ بيدي، ثم قال: يا أبا موسى ألا يستقيم أن نكون إخواناً وإن لم نتفق في مسألة.
علَّق الإمام الذهبي على هذا بقوله:
هذا يدلُّ على كمال عقل هذا الإمام وفقه نفسه فما زال النظراء يختلفون.

والواجب اليوم ألا تفرقنا التصنيفات بين صوفي وسلفي ومتشدد ومعتدل، فلكل واحد شأنه فيما يذهب إليه، ولا يجوز لأحد أن يحمل غيره على أن يتابعه فيما يراه ويعتقده، ولا يجوز أن يسخر أحد من أخيه أو يحط من شأنه، أو يحتقر آرائه، أو يبغي عليه.

وقد وقع الاختلاف في الفروع بين الصحابة الكرام رضوان الله تعالى عليهم وهم خير الأمة، فما خاصم أحد منهم أحداً، ولا عادى أحدٌ منهم أحداً.

جامع اﻹيمان الشيخ محمد نعيم عرقسوسي

08 Jan, 12:09


وقد اتفق الصحابة الكرام - في مسائل تنازعوا فيها - على إقرار كل فريق للفريق الآخر على العمل باجتهادهم، كمسائل في العبادات والمناكح والمواريث، وتنازعوا في مسائل علمية اعتقادية كسماع الميت صوت الحي وتعذيب الميت ببكاء أهله، ورؤية محمد ﷺ ربه قبل الموت، مع بقاء الجماعة والألفة.
يجب أن نلتزم أمر النبي ﷺ حين أمرنا ألا نذكر صفة أو قيداً سوى كلمة الإسلام الجامعة، فروى الإمام أحمد والترمذي وابن حبان وغيرهم من حديث الحارث بن الحارث الأشعري أن رسول الله ﷺ قال:
فادعوا بدعوى الله الذي سمَّاكم المسلمين المؤمنين عباد الله.
وفي رواية:
فادعوا المسلمين بما سماهم الله، المسلمون المؤمنون عباد الله.
أي لا تجعلوا مع ذلك صفة أخرى ولا قيداً آخر.
وقد قال ﷺ:
من صلى صلاتنا واستقبل قبلتنا وأكل ذبيحتنا فذلك المسلم الذي له ذمة الله وذمة رسوله، فلا تُخْفِروا الله في ذمته.

اللهم اجمع شملنا وألِّف بين قلوبنا وأتمَّ نعمتك علينا واختم لنا بخير يا رب العالمين.

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
و الحمد لله رب العالمين.

جامع اﻹيمان الشيخ محمد نعيم عرقسوسي

08 Jan, 12:09


جلسة الصفا

18 جمادى الآخرة 1446
20 كانون الأول 2024

لفضيلة الشيخ
محمد نعيم عرقسوسي

بعنوان:
*كيف نحافظ على النصر*

بسم الله الرحمن الرحيم

أكرمنا الله تعالى بهذا الفتح المبين، وهذا الانفراج الكبير والنصر المؤزر، لقد كان إنجازاً عظيماً بفضل الله تعالى وإحسانه و إنعامه، وحصل ما كان يحبه الجميع ويرجونه ويتطلعون إليه، كما قال تعالى:
وَأُخْرَىٰ تُحِبُّونَهَا ۖ نَصْرٌ مِّنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ ۗ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ
والحفاظ على هذا الإنجاز العظيم أصعب من الوصول إليه، فقد يصل الإنسان إلى القمة ولكن المهم هو الثبات عليها.
والسؤال:
كيف يمكن الحفاظ على هذا الإنجاز وعلى هذه المَكْرُمَة الربانية؟؟.
والجواب:
في قوله تعالى:
وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا
وفي قوله تعالى:
وَلَا تَنَٰزَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ
فهذه الآيات الكريمة تُبيِّن أن السبيل إلى ضمان بقاء هذا الفتح وهذا النصر واستمراره، إنما هو وحدة الكلمة ورصِّ الصفوف و ألا تفرقنا الأهواء والنزوات، ففي مثل هذه الظروف يحلو لبعض الناس أن يتسلق على هذه المنجزات، أو كما يقال يركب الموجة، ويريد أن يجد لنفسه موقعاً فيها ولو لم يبذل شيئا ما في سبيل تحقيقها، فالخطر العظيم هو أن تتلاعب بنا الأهواء أو تستعبدنا النزوات، وأن نقدم المصالح الخاصة على المصالح العامة، وألا نلتزم بفقه الأولويات، وأن يحرص كل منا على مكاسب فردية ضيقة دون الهمِّ الأعظم في بناء الدولة.
إن وحدة الكلمة اليوم هي من أهم ما يجب أن نعمل عليه ونحرص عليه، وننبذ الأنانية والأثرة ونخالف هوى النفوس التي من شأنها أن تصيب الجماعة بالتفرق والتمزق، فيخسروا لا سمح الله ما أكرمهم الله تعالى به، بعد بذل هذه الجهود العظيمة المديدة التي استغرقت سنوات عديدة.
ولنا في التاريخ عبرة وعظة يجب أن نعتبر بها، وقد أمرنا الله تعالى أن نعتبر بما جرى لمن كان قبلنا، فقال:
فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ
فلو سألنا أنفسنا ما سبب الهزيمة التي وقعت للمسلمين يوم أحد، فباستعراض وقائع الغزوة نجد أن الذي حل بهم هو أولاً تفرق الكلمة، فقد أمر القائد كتيبته التي كانت على جبل الرماة أن يلزموه ولا يغادروه امتثالاً لأمر النبي ﷺ ، ولكنهم عصوا أمره وطمعوا في الغنائم و عصوا أمر قائدهم فغادروا الجبل، فانتهز خالد بن الوليد، وكان قائد جيش المشركين، هذه الغرَّة من المسلمين فأتاهم من خلفهم وكرَّ عليهم حتى بادروا بالفرار وانهزموا، وثبت مع النبي ﷺ القليل، وفي ذلك يقول الله تعالى في سورة آل عمران:
وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُم بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ
لقد حددت هذه الآية عوامل الهزيمة بعد النصر وذلك في قول الله تعالى:
(فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ).
قال الإمام الرازي في تفسيره:
أي قد نصركم إلى أن كان منكم الفشل والتنازع، لأنه تعالى كان إنما وعدهم بالنصر بشرط التقوى والصبر على الطاعة، فلما فشلوا وعصوا انتهى النصر.
فالتنازع وتفرق الكلمة والحرص على الغنائم كان سبب الهزيمة التي لحقت بالجميع.
وفي التاريخ أمثلة عديدة على أن التفرق والحمية الجاهلية كانت وراء سقوط الدول، قال الدكتور شوقي أبو خليل في كتابه "عوامل النصر والهزيمة":
إن العنصرية التي دعا الإسلام إلى نبذها والتي عادت للظهور أيام الأمويين كانت من أسباب سقوط دولتهم وهزيمتهم أمام العباسيين، فقد أخذ التعصب للعرب آنذاك يظهر على الألسنة وفي النتاج الفكري، ولمَسَ الفُرسُ هذا التعصب في عدم المساواة بينهم وبين العرب، ثم ذكر الدكتور أمثلة منها هزائم المسلمين التي أنهت حكمهم فى الأندلس، فبعد العز والمجد والقوة والمنعة والازدهار، سقطت الأندلس تحت مطارق التنازع والتفرق والشهوة إلى السلطة والاستقواء بالأعداء.
ومن المقرر في الدين، أن من أعظم مقاصد الإسلام إنما هو التآلف بين المسلمين، وأن تكون كلمتهم واحدة، وألا تتفرق بهم الأهواء والعصبية وألا تمزقهم الخلافات والنزاعات فيكونون لقمة سائغة لأعدائهم لذلك لا يجوز أن يكون الاختلاف فيما بينهم في الآراء و الأفكار والمذاهب سبباً لتفرقهم وتنازعهم، فالاختلاف أمر طبيعي، وهو من طبيعة البشر، ولا يزالون مختلفين فيما بينهم في أفكارهم وآرائهم كما اختلفت ألسنتهم وألوانهم.
لذلك عليهم مهما اختلفت مذاهبهم وتنوعت آراؤهم أن يبقوا ضمن الدائرة الكبرى التي تجمعهم، وهي دائرة الإسلام، فالإسلام هو التسمية الشاملة التي تجمع ولا تفرِّق، والتي سمانا بها ربنا سبحانه وتعالى في القرآن الكريم على لسان سيدنا إبراهيم عليه السلام، فقال تعالى في سورة الحج:

جامع اﻹيمان الشيخ محمد نعيم عرقسوسي

06 Jan, 19:00


وفعلاً تعاون الشيخ مع هؤلاء التجار فبعث بهم إلى قرى حوران، فجلبوا عدداً من الشباب الذين استجابوا لهم من قرى كثيرة في حوران الشمالية والجنوبية، فبقوا عند الشيخ أشهراً يزودهم بالعلم ويزودهم بالتوجيه مع العلم، فعادوا يحملون همِّ توعية الناس من أخطار الفرنسيين وضرورة الأخذ بأسباب الدين، وبينوا لهم خطر التبشير وكان لذلك أثر طيب في توعية القرى والبلدات.
ثم بعد ذلك أقبل عليه الشباب بعد أن لمسوا إخلاصه، فضاق جامع السادات الصغير على الشيخ فانتقل إلى جامع السنانية في باب الجابية، ثم استقدم مجدداً من حوران شبابا لطلب العلم، واستجاب له أهل حوران، فجعلوا يرسلون أبناءهم لطلب العلم، وكذلك أخذ أهالي البلدات المختلفة يرسلون أبناءهم إلى دمشق ليتعلموا عند الشيخ علي الدقر فتطورت جهوده في التعليم إلى حركة علمية منظمة، وكان الطالب يلازم شيخه سنوات، يعود بعده إلى بلده معلماً ومرشدا، وبذلك أحيا الشيخ علي الدقر مناطق واسعة نشر فيها الوعي والعلم.
وتاب إلى الله تعالى على يديه عدد كبير من الناس الذين استمعوا إلى دروسه المؤثرة، وكان الحشد في جامع السادات يضيق عنهم المسجد، يكتظون حتى في فصل الشتاء البارد.
وكان يتكلم بأدواء المجتمع وبما يحدث في الأسواق والبيوت من فساد.
وكان مستغنيا بالمال الذي ورثه عن أبيه، فلم يمد يديه لأحد ولم تستهوه الدنيا، حتى أنه لم يتقاضَ راتباً.

كتب عنه أحد تلاميذه الشيخ مصطفى الخن:
كتب الله على يد الشيخ علي الدقر نشر العلم في سوريا وما حولها من البلدان، الأردن ولبنان وتركيا وفلسطين وغيرها من البلاد.
وقال الشيخ مصطفى الخن:
كان يلقي درسا بعد صلاة الفجر في جامع السادات في باب الجابية وكان المسجد يغص بالمصلين الحاضرين لاستماع درسه، حتى أن كثيرا من الناس كانوا يبسطون الحصر في الشارع ليستمعوا إلى مواعظه، وقال: وكنت وأنا صغير السن آتي قبل الفجر لأستمع إلى هذا الدرس، وكان كلامه يفعل في النفوس كما يقولون: فعل السحر مع بساطة التعبير، حتى أن بعضهم ممن لم يصل إليهم صوته، كان يكتفي بالنظر إلى الشيخ من بعيد ودموعه تنهمر رقة وتأثراً، وكان كلامه يخرج إلى حيز التطبيق فور انتهائه من هذا الدرس، وهو من أوائل من أعلن فتوى تحريم الدخان.
يقول الشيخ مصطفى الخن:
قال له أحد تلاميذه يوماً: إننا نلقي على الناس دروساً متنوعة ولا نرى في الناس هذا التأثير الذي نلمسه في درسك، مع أننا نلقي الدروس مثلك، بالتفسير والحديث والفقه والوعظ وغير ذلك!!!، فأجابه الشيخ: يا بني، لولا الحاجة لم أتكلم، إن هذا الدرس الذي تسمعه مدعوم بقراءة عشرة أجزاء من القرآن قبل الفجر، بقصد أن ينفع الله المسلمين بما أتحدث به.
وكان من جملة أخلاقه وتواضعه، كان إذا خرج الطلاب وراءه أمرهم أن يتأخروا عنه أو يسبقوه ليسير وحده خوفا على نفسه من العجب والكبر.
وكان الشيخ يهتم بأن يكون طلابه متميزين بين الناس بمظهرهم وثيابهم.
وكانت للشيخ طريقة في تسجيل أسماء الطلاب فكان يقحم اسم بلدة الطالب بين اسمه وكنيته، حتى ظن كثير من العامة أنها اسم أبي الطالب أو أمه مثل الشيخ عبد الرحمن الطيبي الزعبي، والشيخ أحمد نصيب محاميد، ومن بعض مشاهير طلابه:
الشيخ إبراهيم اليعقوبي، الشيخ أحمد الدقر، الشيخ أحمد(نصيب) المحاميد(من نصيب)، الشيخ أحمد المقداد البصروي (من بصرى الشام)، الشيخ اسماعيل الخطيب(من الطيبة)، الشيخ محمد بدر الدين عابدين(مؤسس معهد الفرقان)، الشيخ بشير القهوجي (من جوبر)، الشيخ حسن حبنكة(من الميدان)، الشيخ حسني البغال، الشيخ حمدي العلبي(من الشيخ مسكين)، الشيخ خالد جباوي (من انخل)، الشيخ خيرو ياسين (من الميدان)، الشيخ صادق حبنكة شقيق الشيخ حسن حبنكة(من الميدان)، الشيخ صلاح عقلة والد المنشد منير عقلة، الشيخ عبد الرؤوف أبو طوق، الشيخ عبد الرحمن الزعبي(من الطيبة)، ولذلك كان يقال له: عبد الرحمن الطيبي، وهو والد الشيخ محمد الزعبي أبو هشام، والشيخ عبد الرزاق الحمصي والد الشيخ هشام الحمصي، والشيخ عبد العزيز أبا زيد كان مفتي درعا، الشيخ عبد الغني الدقر، الشيخ عبد الكريم الآوي، الشيخ عبد الكريم الرفاعي، الشيخ عمر ريحان، الشيخ محمد الفيومي الخطيب كان إمام جامع في جوبر، والشيخ نايف العباس(من أنخل) كان يعنى بالتاريخ والسيرة، الشيخ نعيم شقير(من الميدان)، الشيخ يوسف عرار(من الميدان)، وآخرون كثيرون غيرهم.

وحين أقبل الناس على الشيخ علي الدقر كان فيهم أولاد القرى من حوران والبقاع وتركيا وغيرها، كانوا غرباء عن دمشق لا مكان لهم يؤويهم سوى غرف المساجد، وكان التجار هم الذين يوفرون لهم حاجاتهم من طعام وكساء وما يحتاجون إليه من الكتب.

جامع اﻹيمان الشيخ محمد نعيم عرقسوسي

06 Jan, 19:00


ولما كثر الطلاب فلم تعد الغرف المتاحة تكفيهم ورأى الشيخ أن غالبيتهم من الفقراء ففكر في أن يسعى للحصول على مورد ثابت، فاقترح عليه التجار إنشاء جمعية خيرية تنظم أمورهم بما يناسبهم وتتولى شؤونهم فولدت الجمعية الغراء لتعليم أولاد الفقراء في حدود عام 1924، حيث كان من أهدافها الدعوة إلى الله تعالى عن طريق التعليم والإرشاد وتوجيه المجتمع إلى الخير والالتزام بدين الله تعالى.
ثم وجد الشيخ علي الدقر أنه لا بد من توجيه الجيل توجيهاً اسلامياً، من إنشاء مدارس تعلم العلم الشرعي على النهج الإسلامي بإشراف الجمعية الغراء، فأنشئت مدرسة وقاية الأبناء، وهي مدرسة ابتدائية للذكور، أوكل الشيخ علي الدقر أمر تأسيسها وإدارتها إلى الشيخ حسن حبنكة وافتتحت سنة 1927م، وضمت آنذاك أكثر من 800 تلميذ.
ثم أنشأ مدرسة ثانية سماها سعادة الأبناء للذكور عام 1929م بالخضيرية بحي الشاغور، وقد نظم أمرها حينذاك الشيخ حسن حبنكة، ثم انتقلت إلى جامع تنكز في شارع النصر، ثم إلى المدرسة السميساطية شمال الجامع الأموي 1945، وكانت مناهجها التدريسية مناهج الدولة نفسها، يزيد عليها المقررات الشرعية والعربية وأولت دراسة اللغة الأجنبية عناية فائقة.
ومع ظهور الحاجة إلى مزيد من المدارس أُحدثت مدرسة باسم ثانوية السعادة وافتتحت عام 1946 م، والتي لا تزال إلى يومنا هذا من الثانويات المقصودة.
وأسست الجمعية مدرسة ابتدائية للبنات أسسها في زقاق البرغل بحي باب الجابية وسماها روضة الحياء، ولا تزال إلى يومنا هذا.
وافتتح مدارس أخرى بأماكن متعددة، فأنشأ مدرسة في الديماس أدارها الشيخ صلاح عقلة، وأسس مدارس في التل وفي برزة وفي القابون وحران العواميد.
وأسس مدرسة العلوم الشرعية، وبعد البحث عن مكان ملائم وقع الاختيار على مدرسة الأمير المملوكي تنكز في شارع النصر وكانت مدرسة كبيرة من طابقين.
وكان الفرنسيون قد حولوها إلى ثكنة عسكرية واستطاع الشيخ علي الدقر أن يخرج الجنود منها، إذ أمرت الجمعية طلابها أن يتهيؤوا في يوم كانت فيه الثكنة خالية من الجنود، خرجوا لأمر ما، فنزل الطلاب بأمتعتهم واستقروا بها، فلما رجع الجنود أُسقط في أيديهم، وتعذر عليه إخراج الطلاب، وتدخل الشيخ بدر الدين الحسني فدعم الجمعية لئلا يتصرف الفرنسيون بحماقة، لما كان للشيخ بدر الدين الحسني من مهابة، وتم للمعهد ما أراد من الأمر.
وقال مدير الأوقاف آنئذٍ الشيخ عبد القادر الخطيب للشيخ عبد الحميد الطباع أحد داعمي الشيخ علي الدقر : يد الإخلاص غلبت يد القوة.
ولم يقتصر نفع الشيخ وعلمه على دمشق فحسب، بل كان يرسل طلابه المقتدرين إلى القرى السورية الأردنية وإلى بقاع لبنان ليرشدوا الناس ويرغبوا الصغار في طلب العلم.
فانهال عليه التلاميذ من القرى وخصوصا قرى حوران التي لم تبق قرية فيها إلا أرسلت إليه من أبنائها أفرادا، كان منهم القضاة والمفتون والمدرسون والخطباء والوعاظ، وهم الذين عمروا المساجد في دمشق وقراها، وتخرج في معهد العلوم الشرعية أكثر من أربعة آلاف طالب، كان يرسل منهم المئات إلى جهات مختلفة وخاصة في شهر رمضان.

وفي بداية عام 1940 بدأ الضعف والمرض يستولي على الشيخ، فأصيب بالتهاب المفاصل، ومع ذلك لم ينقطع عن دروسه ولم يمتنع عن الخروج إلى حلقات المسجد إلا لشدة المرض، نصح له الأطباء أن يسكن في سفح الجبل بقاسيون، طلبا للهواء الجاف، فانتقل إلى حيث أشاروا وصار يقرئ في بيته.
واشتد به المرض وضعفت ركبتاه ضعفاً شديداً حتى لزم الفراش أكثر من سنتين ومع هذا، بقي مثابرا على التعليم وعلى حضور صلاة الجمعة في جامع المرابط، يكابد في الوصول إليه، ينزل من بيته في الجادة الخامسة.
ثم اشتد به الحال فوافاه الأجل يوم الثلاثاء 25 صفر 1362 هجرية/ 1943 م، وصلي عليه في الجامع الأموي، ودفن في مقبرة باب الصغير، رحمه الله تعالى.

لذلك نقول:
يجب أن يقوم كل منا برسالة الإصلاح والدعوة إلى الله تعالى، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كلٌ حسب استطاعته وقدرته أو دعمه لطلاب العلم.

رحم الله تعالى الشيخ علي الدقر، ورحم الله علماءنا جميعاً.

ونسأل الله تعالى أن يجعلنا جميعا مفاتيح خير مغاليق شر.

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

و الحمد لله رب العالمين.

جامع اﻹيمان الشيخ محمد نعيم عرقسوسي

06 Jan, 19:00


جلسة الصفا

27 جمادى الأولى 1446
29 تشرين الثاني 2024

لفضيلة الشيخ
محمد نعيم عرقسوسي

بعنوان:
الشيخ علي الدقر أحد مصلحي العصر.


بسم الله الرحمن الرحيم

ولد الشيخ علي الدقر بدمشق عام 1877م، سكنت أسرته في زقاق البرغل بحي الشاغور الجواني، وكان الشيخ علي رابع خمسة من إخوته، أبوه كان ميسور الحال يعمل في التجارة والزراعة يقال له أبو صادق.
نشأ الشيخ علي الدقر كغيره من الغلمان، فتعلم القرآن الكريم والقراءة والكتابة في الكتاتيب التي كانت منتشرة في دمشق آنذاك.
ورعاه في صغره أحد أعمام أبيه يدعى الشيخ عبد الكريم الدقر، كان معروفاً بصدقه، يحبُّ مجالسة العلماء، فأحبه حباً جماً، ولازمه وانتفع بتوجيهاته، وتأثَّر به.
ثم انتقل إلى مدرسة الشيخ عيد السفرجلاني، فبقي فيها سنوات حصَّل خلالها مبادئ العلوم، وكانت أول مدرسة بالمعنى المختلف عن الكتاتيب، بعد تخرجه من هذه المدرسة انصرف بكليته إلى حلقات العلماء ولم يسلك طريق إخوته، الذين يكبرونه، في مشاركتهم لأبيهم في أعماله التجارية، فلما رأى والده أن ابنه انصرف إلى حلقات العلماء وكان يريده أن يعمل معه في أعمال التجارة، تألم لحاله، وشكا إلى صديق له فقال له: ما أدري والله كيف سيعيش هذا الولد وكيف يصير إذا كبر، وما درى أن الله تعالى قد خبأ له حياة عريضة لن تكون لكل أحد.
وقد عاش هذا الصديق حتى بلغ الشيخ علي الدقر ذروة مجده وازدحمت عليه الألوف، ورآه يوماً وهو خارج من المسجد ووراءه الحشود من أرباب العمائم، فتذكر ما قاله الأب فحدثت معه حالة غريبة، ومضى إلى قبر الأب وهو في أعلى صوته: يا أبا صادق يا أبا صادق، ارفع رأسك فانظر إلى ابنك كيف صار.

لازم الفتى إذن حلقات العلوم الشائعة آنذاك علوم الشريعة والعربية والفلسفة، قصد أولاً حلقة الشيخ أمين البيطار، فقرأ عليه في جامع السنانية حتى بلغ سن الشباب، ثم انتقل إلى حلقة الشيخ محمد القاسمي في جامع حسان بباب الجابية، فقرأ عليه في علوم العربية والفقه الشافعي وعلم الكلام، ولازمه ملازمة تامة واجبة.

همة الشيخ علي الدقر:
وكان الشيخ علي يخرج مع الفجر ينتظر أستاذه عند بيته، لا يطرق عليه بابه حتى يخرج لصلاة الفجر، فينطلق معه إلى الصلاة فالدرس، وكان هو معيد الدرس عليه، وهي وظيفة القراءة بين يدي الشيخ، ولما رأى شيخه أنه صار أهلا للتدريس وجهه إليه، فصارت له حلقة في حياة شيخه قصدها الطلاب، فتدرَّج بهم في الإقرار حتى قرر الكتب الكبار وشيخه حي، وربما حضر شيخه القاسمي حلقة تلميذه، وربما حضر معه كذلك أنداده من الشيوخ الكبار من أمثال الشيخ عبد المجيد الطرابيشي، والد الشيخ بكري الطرابيشي، والشيخ عبد الرزاق الطرابلسي وغيرهما.
وخلال ذلك، كان الشيخ علي يتردد على العلامة الأصولي أمين سويد رحمه الله تعالى، فقرأ عليه بعض العلوم.
وحضر عند عالم الشام ومحدثها الشيخ محمد بدر الدين الحسني، وكان عنده أثيراً محبوباً، لقي منه عناية خاصة، وسمع منه الكتب الصحاح الستة، وقرأ عليه في الأصول وغير ذلك، وربما اختصه بقراءة بعض الكتب، وكان يقدمه للإمامة في صلاة العشاء ببيته بعد فراغه من الدرس الخاص، وكان الشيخ علي فيما بعد يطلب من الشيخ بدر الدين الحسني دروساً خاصة لطلابه النجباء.
ولقد صدقت فراسة الشيخ بدر الدين بالشيخ علي الدقر، ولم يخب ظنه فيه، وتحقق فيه ما كان يرجوه من الصلاح والإصلاح وبث العلم.
فلما انتشرت دعوته أخذ يؤازره ويشد عضده ويشجعه ويثني عليه في الناس، وكان يقول: لو أنصف أهل الشام لما تركوا الشيخ علي و تلاميذته يمشون على الأرض، بل حملوهم على رؤوسهم.
وبقيت علاقة الشيخ علي الدقر بالشيخ محمد بدر الدين الحسني علاقة وثيقة، واتصل الشيخ علي كذلك بالمحدث محمد بن جعفر الكتاني والد الشيخ مكي الكتاني، وأخذ عنه كذلك علماً كثيراً.
ثم بعد وفاة شيخه الشيخ محمد القاسمي انطلق في تدريسه من جامع السادات بباب الجابية، ويقع في أهم أسواق دمشق آنذاك، سوق مدحت باشا وسوق الذراع(الضراع)، وكان رواد المسجد هُمُ التجار الذين يجاورونه في تلك الأسواق، لكن كانت البداية صعبة، لأن الناس كانوا في أثناء الحرب العالمية الأولى وإثر دخول الفرنسيين، مشغولين عن العلم بتوفير لقمة العيش في الظروف الحياتية الصعبة آنذاك وأضرَّ بهم انتشار الفقر.
ولذلك فقد ركز في دروسه على التكافل الاجتماعي وأخذ يحث الناس على البر، ويعالج مشكلات المجتمع والسوق والباعة، ولذلك بدأ سريعا يزداد عدد الحاضرين لأسلوبه الذي أخذ يؤثر فيهم، وللموضوعات التي كان يطرقها بما يهمهم في إصلاح المجتمع ومعالجة مشكلاتهم اليومية الحساسة.
وتناهى إلى الشيخ عن طريق هؤلاء التجار أن الفساد بدأ يعم البلاد وخصوصاً بعد دخول الفرنسيين، إذ أن بعض النساء بدأن ينكشفن في الطرقات وأخبروه أن الفرنسيين أخذوا يقومون بالتبشير في حوران وفي البقاع واقترحوا عليه استقدام بعض أبناء حوران وغيرهم لتوعيتهم، ثم نشرهم في قرى بلادهم للوقوف في وجه إرساليات المبشرين.

جامع اﻹيمان الشيخ محمد نعيم عرقسوسي

24 Nov, 11:54


وبالنسبة لانتشار الإسلام في بلاد أفريقية، ذكر المؤرخون أنه بعد أن تم فتح السودان وتم استقرار الإسلام فيه، صار السودان مركزا رئيساً للدعاة والعلماء بالنسبة لأفريقيا، فركبوا البحر الأحمر إلى قارة أفريقيا ، ونشروا الإسلام في أوغندا وكينيا وتنزانيا وجزر القمر وغيرها.
ومن شرق أفريقيا توجه التجار المسلمون إلى الجنوب الأفريقي، وأقام بعضهم في تلك المناطق فترة طويلة، وحدث تزاوج بينهم وبين نساء تلك المناطق، مما نتج عنه كذلك تقارب بين الطرفين، وبدأ الأفارقة يأخذون من ثقافة التجار المسلمين وبدؤوا يتعلمون اللغة العربية بعد دخولهم في الإسلام، وأخذ عدد المسلمين يزداد يوماً بعد يوم في شرق وجنوب القارة السمراء.

وكان بعض التجار يجمع بين التجارة والعلم، فكانوا ينشؤون حلقات تعليم القرآن الكريم، فكان لهم دور هام في نشر الإسلام في غرب أفريقيا وانشؤوا مراكز تجارية صارت مركز إشعاع ديني وثقافي.
وبدأ التجار يفتتحون المدارس ويعلمون أبناء تلك المناطق، ويقومون بإيفاد المتفوقين منهم للدراسة في المراكز العلمية المرموقة.
وكانوا لا يُميِّزون بين أبيض وأسود أو بين غني وفقير، وهذا ما كان يفتقده سكان تلك المناطق نتيجة ما عانوه من ظلم واستعباد قبل دخول الإسلام إليهم، كما أن البعثات التبشيرية التي كانت ترسلها أوروبا، كانت تتعالى على الشعوب.

ومثلما انتشر الدين الإسلامي في قارة أفريقيا، انتشر أيضاً في قارة آسيا التي تعد أكبر قارات العالم مساحة، فقد توجه التجار المسلمون باتجاه الهند، وبدؤوا يمارسون دورهم الدعوي من حيث الصدق وعدم الغبن و عدم الكذب وفي الوفاء بالعهود والمواثيق، فتقربوا من سكان تلك المناطق في الهند والصين، وبدأ السكان هناك يدخلون في الدين الإسلامي طواعية عن طريق هؤلاء التجار المسلمين الذين عاملوا أهل تلك البلاد بالسلوك الطيب والتعامل الحسن .

فهذه تركستان الشرقية في الصين عرفت الإسلام عن طريق التجار ، فانتشر الإسلام بين الصينيين، ووصل التجار المسلمون إلى بلدان جنوب شرق آسيا كماليزيا والفلبين وغيرهما .

وكان التجار المسلمون وراء وصول الإسلام إلى جزر المالديف التي تقع في الجنوب الغربي من سريلانكا.

وكان للتجار أيضا دور بارز في وصول الإسلام إلى اندونيسيا التي تعد اليوم من أكبر الدول الإسلامية، وأول المناطق التي دخلها التجار هي السواحل الاندونيسية، ونزلوا كذلك في جزيرة سومطرة، ثم انتقلوا إلى بقية الجزر الأخرى جامعين بين التجارة والدعوة إلى الله تعالى.

وكان للحضارمة والعمانيين على وجه الخصوص أدوارٌ عظيمة في انتشار الإسلام في تلك البلاد، وكان لهم دور الريادة المطلق في المحيط الهندي، إذ تطور الأمر إلى هجرات واسعة من الحضارمة اليمنيين المسلمين إلى مناطق كثيرة في أرخبيل الملايو، حتى إنهم استطاعوا تأسيس سلطنات مستقلة في جزيرة جاوا.
وثمة أمور أدت إلى أسلمة اندونيسيا، منها زواج هؤلاء التجار الحضارمة والعمانيين وغيرهم من النساء الجاويات،

وكان زواج ملك جاوة الوسطى في القرن الثاني عشر الميلادي من أميرة مسلمة حدثاً مفصلياً، فقد اشترطت عليه هذه الأميرة أن يسلم أولا قبل الزواج بها فأسلم، وكان إسلام هذا الملك فاتحة عهد إسلامي جديد لانتشار الإسلام في جاوة الوسطى.

ويذكر المستشرق توماس أرنولد أن التجار والمهاجرين المسلمين العرب والهنود، رأوا أن أقوم السبل لإدخال دين الإسلام إلى هذه البلاد أن اتخذوا لغة القوم وكثيراً من عادات الأهالي، وعملوا يداً واحدة، وكان الهدف لهذه الوحدة بينهم الدعوة إلى الإسلام ونشره بين الطبقات الاجتماعية الوثنية.

ويذكر الرحالة الإيطالي الشهير ماركو بولو الذي قضى خمسة أشهر على ساحل سومطرة الشمالي سنة ١٢٩٢ م أنه وجد مملكة بولاك الصغيرة على الزاوية الشمالية الشرقية من الجزيرة مسلمة، لأن تجار المسلمين قد أدخلوا الإسلام فيها لكثرة ترددهم عليها في القرن الثامن.
وتدل الأخبار التاريخية أن ملك منطقة في جاوة أسلم عل يد بعثة من الدعاة، أرسلها أحد أشراف مكة المكرمة في القرن الثاني عشر الميلادي برئاسة رجل اسمه الشيخ اسماعيل، وقد اتخذ هذا الملك لقباً جديدا بعد الإسلام، سمى نفسه: الملك الصالح، وتزوج من ابنة ملك مملكة برلاك المسلمة، وأنجب منها ولدين كان أكبرهما الملك الظاهر.
وقد زار الرحالة المغربي الأشهر ابن بطوطة هذه المناطق في حدود عام ٧٤٣ هجري، ١٣٤٥ ميلادي، ورأى الملك الظاهر ابن الملك الصالح سلطان جاوة، ووصفه فقال: هو من فضلاء الملوك وكرمائهم شافعي المذهب، محب الفقهاء، يحضرون مجلسة للقراء والمذاكرة، وهو كثير الجهاد والغزو، ومتواضع جداً، يأتي إلى صلاة الجمعة ماشياً على قدميه.

جامع اﻹيمان الشيخ محمد نعيم عرقسوسي

24 Nov, 11:54


وهذا الوصف من ابن بطوطة يعني أن أهل البلاد أنفسهم بعدما دخل الجيل الأول منهم إلى الإسلام طواعية واقتناعا على يد الدعاة المسلمين تجاراً كانوا أم علماء، عرباً كانوا أم هنودا، فإن الجيل الثاني قد حمل على عاتقه مهمة نشر الإسلام في اندونيسيا وماليزيا المجاورة، وكونهم من أصحاب المذهب الشافعي يؤكد أن الدعوة الأولى قد جاءت من الحضارمة الشافعية، وكذلك من أبناء المليبار جنوب الهند.
ويذكر أرنولد أن موجة انتشار الإسلام لم تخفت مع احتلال الهولنديين في القرن السادس عشر، فقال: أخذ الإسلام ينتشر بالوسائل الحماسية عن طريق التجار الذين طوفوا في البلاد.

ومن إقليم جاوة والملايو أخذ الإسلام في التوسع إلى المناطق المجاورة من جنوب شرق آسيا مثل كمبوديا وتايلند .

وفي بداية العصور الحديثة حرص أبناء هذه المناطق على إرسال أبنائهم إلى التعلم في الأزهر وفي البلاد العربية ومنها سورية، وكان أشهرهم الشيخ ظاهر جلال الدين الأزهري الذي كان من أكبر دعاة الإسلام في سومطرة وماليزيا، وقد توفي فيها سنة ١٩٥٦ م.

اللهم اجعلنا من الدعاة إلى دينك وشريعتك يا رب العالمين.

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

و الحمد لله رب العالمين.

جامع اﻹيمان الشيخ محمد نعيم عرقسوسي

24 Nov, 11:54


جلسة الصفا

٢٠ جمادى الأولى ١٤٤٦
٢٢ تشرين الثاني ٢٠٢٤

لفضيلة الشيخ
محمد نعيم عرقسوسي

بعنوان:
*دور التجار في نشر الإسلام*

بسم الله الرحمن الرحيم

تكلمنا في الدرس الماضي عن أثر الدعوة إلى الله تعالى في انتشار الإسلام .

ونذكر اليوم أن من أهم أسباب إنتشار الإسلام ، إنما هو القدوة الحسنة والأخلاق الفاضلة من التسامح والعدل والصدق والأمانة والنصح واحترام الحقوق وحفظ العهود.

من الأمثلة على ذلك أنه لما توجه المسلمون نحو حمص لفتحها كانت فيها حامية رومية كبيرة، وخرجت تلك الحامية لمواجهة المسلمين على أبواب حمص، لكن المسلمين تمكنوا من هزيمتها، وفرَّ من بقي من الحامية إلى داخل الأسوار الحصينة، ففرض المسلمون الحصار على حمص، وبعد ١٨ يوما استسلمت المدينة وقبلت بالجزية، وكانت الجزية مقابل الحماية والدفاع عنهم، وكانت ١٧٠ ألف دينار، وتم إبرام المعاهدة بين المسلمين وأهل حمص.

لكن هرقل ملك الروم ما كان له أن يبقى متفرجا وهو يشاهد مدن بلاد الشام تسقط الواحدة تلو الأخرى، فجمع كل الحاميات والجيوش المنتشرة وحشدهم في جيش واحد، وصل عدده إلى أكثر من مئتي ألف جندي، ووصل نبأ ذلك الحشد الضخم إلى المسلمين، فتشاوروا فيما يفعلونه، واستقر الرأي على أن ينسحبوا إلى أطراف بلاد الشام.
وبالفعل، بدأ المسلمون بالانسحاب من حمص، ولكنهم قبل أن ينسحبوا قاموا بأمر عجيب، لقد أعادوا إلى أهل حمص أموال الجزية التي أخذوها منهم، وأمر أبو عبيدة بن الجراح رضي الله تعالى عنه حبيب بن مسلمة، عامله على الخراج، أن يرد على أهل حمص كل ما أخذه منهم من أموال، وقال له: أردد على القوم الذين صالحناهم من أهل البلد ما كنا أخذنا منهم، لأنه لا ينبغي لنا إذ لم نمنعهم أن نأخذ منهم شيئاً، ذلك لأن الجزية هي في مقابل أن يحموهم ويدافعوا عنهم، ولن يستطيعوا بعد الانسحاب أن يدافعوا عنهم .
وطلب منه أن يقول لهم: نحن على ما كنا عليه فيما بيننا وبينكم من الصلح، لا نرجع عنه إلا أن ترجعوا عنه، وإنما رددنا عليكم أموالكم، كرهنا أن نأخذ أموالكم ولا نمنع بلادكم.

استغرب أهل حمص من تصرف المسلمين كثيراً، إذ لم يكن يخطر في بالهم أن جيشاً منتصراً فاتحاً قد يتصرف كما تصرف المسلمون.
فما كان منهم إلا أن قالوا للمسلمين: ردَّكم اللهُ إلينا، ولعن الله الذين كانوا يملكوننا من الروم، والله لو كانوا هم علينا، ما ردوا علينا شيئاً، ولكن غصبونا، وأخذوا ما قدروا عليه من أموالنا، ثم قالوا للمسلمين: لَوِلايَتِكُم وعَدْلكُم أحبُّ إلينا مما كنا فيه من الظلم والغشم.

وكان ذلك من أسباب دخول أهل حمص في الإسلام لما رأوا من أمانة المسلمين وسماحتهم وصدق عهودهم.

وكذلك عديد من البلدان في أصقاع الأرض انتشر فيها الإسلام لا عن طريق الفتوحات التي قادها القادة المسلمون، وإنما عن طريق التجار المسلمين الذين جابوا مشارق الأرض ومغاربها، وكان لهم دورٌ كبيرٌ في نشر الإسلام هناك، وقسم منهم أقام فترة طويلة في البلدان التي قصدها من أجل التجارة.

وكان التاجر المسلم معروفاً بصدقه وأمانته وأخلاقه الطيبة السمحة، وكان هؤلاء التجار حريصين على أن يكون ما يكسبونه حلالاً خالياً من المحرمات، وبذلك زرعوا الثقة بينهم وبين تجار تلك البلاد فصاروا يحبون التعامل معهم لما لمسوه من أمانة وصدق في التعامل،
كانوا إذا هموا ببيع سلعة ما، يُبَيِّنون كل العيوب التي توجد فيها لمن يريد شراءها، وإذا أعطوا وعدا لشخص ببيعه سلعةً، أوفوا بعهدهم ولم يخلفوا به حتى وإن جاءهم سعر أعلى من السعر الذي اتفقوا عليه، لأنهم يعلمون أن الإخلال بالعهد والوعد من صفات المنافقين.
ولم يكونوا يحتكرون بعض السلع ويحبسونها عن الناس ينتظرون ارتفاع أسعارها ليربحوا الكثير من الأموال، فقد سمعوا قول رسول الله ﷺ:
لا يحتكر إلا خاطىء.
لقد كان التجار مثالاً حسناً للتعامل وحسن السيرة، وامتازوا بالنظافة ورقي المعيشة فكان التاجر يهتم بصقل(كوي) ثوبه وعمامته وجمال دابته وتنظيف عدتها وسرجها ولجامها.
وكان التاجر المسلم إذا دخل قرية وثنية يلفت النظر بوضوئه وانتظامه في المواظبة على الصلاة، فكانت مظاهر التقوى والورع لها تأثير في جذب الكافر الذي أصبح يتصل بهم يومياً.
وبذلك استهووا سكان البلاد حيث كانوا دمثي الأخلاق ذوي قابلية للاندماج بالأهلين .
ومع أنهم جاؤوا للكسب والتجارة وتبادل السلع، كانوا يقيمون شعائرهم الدينية حيثما وجدوا على مرأى ومسمع من أهل البلاد، فقد كانوا يؤدون الصلاة ويؤذنون لها.
ذكر ابن بطوطة عن أخلاقيات التجار المسلمين في أرخبيل الملايو عند زيارته للمنطقة فقال:
وجاء إليَّ احد كبار التجار فيهم وهو شرف الدين التبريزي، أحد التجار الذين استندت منهم حين قدومي على الهند، وهو كان أحسنهم معاملة حافظاً للقرآن، مكثراً للتلاوة.

جامع اﻹيمان الشيخ محمد نعيم عرقسوسي

16 Nov, 20:05


جلسة الصفا

13 جمادى الأولى 1446
15 تشرين الثاني 2024

لفضيلة الشيخ
محمد نعيم عرقسوسي

بعنوان:
*أثر الدعوة في انتشار الإسلام*

بسم الله الرحمن الرحيم

مازلنا نتكلم عن واجب كل واحدٍ منا في أن يكون له دور إيجابي في هذه الحياة و في أن يحرص على أن يترك له أثراً طيباً يبقى له أجره وثوابه بعد وفاته، وذلك من خلال دعوة إلى الله تعالى، أو أمرٍ بالمعروف أو نهيٍ عن المنكر، أو تقديم نصيحة وموعظة حسنة يكون فيها خير لغيره ينقله بذلك من حال فاسدة إلى حال ترضي الله عز وجل، ويجري عليه أجر من هداه الله تعالى على يديه، مصداق قوله عليه الصلاة والسلام:
من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيء.

والدعوة إلى الله تعالى ، أوالأمر بالمعروف أو النهي عن المنكر أوإسداء النصيحة لا يحتاج إلى كبير عناء ولا شديد عنت، إنما يحتاج إلى كلمة طيبة، وقدوة حسنة ، وقول ليِّن، وموعظة رقيقة يكون لها الأثر البالغ في قلب من وجهت إليه، وتُحدث فيه التغيير الإيجابي والتوجه السليم نحو الهداية والخير.

وكم نحن اليوم بمسيس الحاجة إلى هذه الدعوة الحسنة، من أجل تثبيت الناس على الأخلاق الإسلامية الفاضلة، وتحذيرهم من الانغماس في الرذائل وقسوة القلوب ومن عدم التراحم والتعاطف ومن الأثرة والأنانية والجشع وحب المظاهر، وكل هذه أمراض خبيثة تمزق المجتمع وينعدم معها الأمن الاجتماعي والاستقرار النفسي والحياة المطمئنة، سوى ما لهؤلاء مرضى القلوب من الحساب العسير والعذاب الشديد يوم القيامة.
فكم من كلمة طيبة غيرت المسار وصححت التوجه، وكان لقائلها من الأجر العظيم ما لا يعلمه إلا الله تعالى.

ذكر الإمام الذهبي في كتابه "سير أعلام النبلاء" في ترجمة زاذان أبي عمر الكندي أنه كان صاحب لهوٍ وطرب وكان جَيَّد الضرب بالطنبور، وهي آلة موسيقية وترية قديمة، وكان حسن الصوت، فمرَّ به عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه وهو يُغنِّي، فقال له: لو كان ما يُسمع من حسن صوتك يا غلام بالقرآن كنت أنت أنت، ثم مضى، قال زاذان: فقلت لأصحابي: من هذا؟، قالوا: هذا ابن مسعود، قال: فأُلقي في نفسي التوبة، فسعيتُ أبكي، وأخذتُ بثوبه، فأقبل عليَّ فاعتنقني وبكى، وقال: مرحباً بمن أحبَّه الله، اجلس، ثم دخل، وأخرج لي تمراً.
ثم صار زاذان هذا أحد العلماء الكبار ومن رواة أحاديث رسول الله ﷺ ، وله روايات في صحيح مسلم وفي سنن أبي داود والترمذي والنسائي وابن ماجه، وصار كذلك من العُبَّاد، قال أحدهم: رأيت زاذان يُصلي كأنه جذع.
وهذا كله في صحيفة ابن مسعود، الذي نصحه بهذه الكلمة الرقيقة الطيبة، فأحدثت فيه هذا الانقلاب في حاله ومساره.

والصحابة رضوان الله تعالى عليهم كانوا من فرسان الدعوة إلى الله تعالى بالحكمة والموعظة الحسنة والكلمة الطيبة، وبدعوتهم انتشر الإسلام في الآفاق ، وقصصهم في الدعوة كثيرة وجميلة رائعة .

منها الدعوة التي قام بها ذلك الشاب العظيم الصحابي الجليل مصعب بن عمير رضي الله تعالى عنه الذي نشأ في مكة شاباً جميلاً مترفاً يرتدي أحسن الثياب ، ويتعطر بأفضل العطور، حتى إن النبي ﷺ وصفه كما ورد في السيرة بقوله : ما رأيت بمكة أحسن لمةً ولا أنعم نعمةً من مصعب بن عمير .
وقال سعد بن أبي وقاص: كان مصعب بن عمير أنعم غلام بمكة وأجوده حلة

عرف بأنه فتى مكة المدلَّل يفيض شباباً وجمالاً .
لكن أكرمه الله تعالى فكان من أوائل شباب مكة دخولاً في دين الله تعالى حين كان المسلمون يجتمعون سراً في دار الأرقم في أول سنوات الدعوة والرسالة .
حين دخل نور الإيمان إلى قلبه انتقل من حياة الترف والدلال، من حياة الاهتمام بالمظاهر والشكليِّات الفارغة التي لا قيمة لها، إلى أن صار من أهم دعاة الإسلام .

وكان أول سفير في الإسلام، فقد بعثه النبي ﷺ إلى المدينة مع الأنصار الذين جاؤوا فبايعوه بيعة العقبة الأولى، وهناك أخذ يدعو إلى الإسلام بكل تؤدة وحكمة وأناة وقوة حجة فانتشر بدعوته الإسلام في المدينة المنورة حتى لم تبق إلا بيوت معدودة لم يدخلها، ومهَّد ذلك لهجرة النبي ﷺ إلى المدينة.

روى ابن اسحاق كيف كانت طريقة دعوة مصعب بن عمير لسادة يثرب في غاية الرفق واللطف واللين، فذكر أنه جلس مع أسعد بن زرارة _ الذي كان قد أسلم حين قدم إلى مكة والتقى برسول الله ﷺ _ في أحد بساتين المدينة واجتمع إليهما بعض الرجال ممن أسلم.
فسمع به سعد بن معاذ وأُسيد بن حُضير وهما يومئذ سيدا قومهما من بني عبد الأشهل ، وكلاهما مشرك على دين قومه، فلما سمعا به قال سعد بن معاذ لأسيد بن حضير: لا أبا لك، انطلق إلى هذين الرجلين اللذين قد أتيا دارنا ليُسَفِّها ضعفاءنا ، فازجرهما وانههما أن يأتيا دارنا، فإنه لولا أسعد بن زرارة مني حيث قد علمت، كفيتك ذلك، هو ابن خالتي، ولا أجد عليه مقدماً .

جامع اﻹيمان الشيخ محمد نعيم عرقسوسي

16 Nov, 20:05


فأخذ أسيد بن حضير حربته ثم أقبل عليهما، فلما رآه أسعد بن زرارة قال لمصعب: هذا سيِّد قومه وقد جاءك فاصدق الله فيه، قال مصعب: إن يجلس أكلمه.
قال: فوقف أسيد بن حضير عليهما متشتماً، وقال: ما جاء بكما إلينا تسفهان ضعفاءنا؟ اعتزلانا إن كانت لكما بأنفسكما حاجة، يعني: إن كنتما تريدان الإبقاء على حياتكما.
فقال له مصعب: أو تجلس فتسمع، فإن رضيت أمرا قبلته، وإن كرهته كُفَّ عنك ما تكره .
فقال أسيد: أنصفت، ثم ركز حربته وجلس إليهما، فكلمه مصعب بالإسلام وقرأ عليه القرآن، فعرفا في وجهه الإسلام قبل أن يتكلم، ثم قال أسيد : ما أحسن هذا وأجمله، كيف تصنعون إذا أردتم أن تدخلوا في هذا الدين؟، قال له مصعب: تغتسل فتطَّهَّر و تُطَهِّر ثوبيك ثم تشهد شهادة الحق ثم تصلي . فقام فاغتسل وطهَّر ثوبيه وتشهَّد شهادة الحق .
ثم قال لهما: إن ورائي رجلاً أن اتبعكما لم يتخلف عنه أحد من قومه، وسأرسله إليكما الآن، إنه سعد بن معاذ .
ثم أخذ حربته وانصرف إلى سعد وقومه وهم جلوس في ناديهم، فلما نظر إليه سعد بن معاذ مقبلاً قال: أحلف بالله لقد جاءكم أسيد بغير الوجه الذي ذهب به من عندكم.
فلما وقف على النادي قال له سعد: ما فعلتَ؟، قال: كلمتُ الرجلين، فوالله ما رأيت بهما بأساً، وقد نهيتهما، فقالا: نفعل ما أحببت .
فقال له سعد: والله ما أراك أغنيت عنا شيئاً .
ثم خرج إليهما سعد، فقال أسعد بن زرارة لمصعب: أي مصعب، جاءك والله سيدُ من وراءه من قومه ، إن يتبعك لا يتخلف عنك منهم اثنان، فوقف سعد بن معاذ عليهما متشتماً، فقال له مصعب: أو تقعد فتسمع، فإن رضيت أمراً ورغبت فيه قبلته، وإن كرهته عزلنا عنك ما تكره، قال سعد: أنصفت.
ثم ركز الحربة وجلس، فعرض عليه الإسلام ، وقرأ عليه القرآن، قالا: فعرفنا في وجهه الإسلام قبل أن يتكلم، ثم قال لهما: كيف تصنعون إذا أنتم أسلمتم ودخلت في هذا الدين؟، قالا: تغتسل فتطَّهَّر وتطهر ثوبيك ثم تشهد شهادة الحق.
ثم أخذ حربته فأقبل عائداً إلى نادي قومه ومعه أسيد بن حضير، فلما رآه قومه مقبلاً قالوا: نحلف بالله، لقد رجع إليكم سعد بغير الوجه الذي ذهب به من عندكم.
فلما وقف عليهم قال لهم: يا بني عبد الأشهل، كيف تعلمون أمري فيكم؟ قالوا: سيدنا وأفضلنا رأياً، قال: فإن كلام رجالكم ونسائكم عليَّ حرام حتى تؤمنوا بالله ورسوله، قالوا: فوالله ما أمسى في دار بني عبد الأشهل رجل ولا امرأة إلا مسلماً أو مسلمة.
واستمر أسعد بن زرارة ومصعب بن عمير يدعوان الناس إلى الإسلام حتى لم يبق دار من دور الأنصار إلا وفيها رجال ونساء مسلمون، إلا دوراً قليلة من دور الأوس.
ذكر ذلك ابن كثير في "البداية والنهاية".

وكذلك الطفيل بن عمرو الدوسي لما أسلم رجع إلى قومه يدعوهم إلى الإسلام ، وقصة إسلامه وسماعه من النبي ﷺ قصة طريفة نذكرها في وقت آخر إن شاء الله تعالى،

قال الطفيل: فلما أسلمت أتاني أبي وكان شيخا كبيراً، فقلت: إليك عني يا أبت، فلستَ مني ولست منك، قال: ولم أي بني؟؟!، قلت: أسلمت وتابعت دين محمد، قال أبي: ديني دينك . فاغتسل وطهر ثيابه ثم جاء فأسلم، وكذا قال لزوجته فأسلمت، ثم دعا دوساً إلى الإسلام فأبطؤوا عليه، لكن أجابه أبو هريرة رضي الله تعالى عنه، فكل ما يرويه أبو هريرة في صحيفة الطفيل بن عمرو
ثم جاء الطفيل إلى رسول الله ﷺ وقال له: يا نبي الله، إن دوساً قد عصت وأبت ، فادع الله عليهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم اهد دوساً وائت بهم، ارجع إلى قومك فادعهم وارفق بهم، قال: فرجعت فلم أزل بأرض دوس أدعوهم إلى الإسلام حتى هاجر رسول الله ﷺ إلى المدينة وقضى بدراً و أحداً والخندق، ثم قدمت على رسول الله ﷺ بمن أسلم معي من قومي
ورسول الله ﷺ بخيبر حتى نزلت المدينة بسبعين أو ثمانين بيتا من دوس.

أيها الإخوة لا تبخلوا على أنفسكم بالكلمة الطيبة والموعظة الحسنة ، فيكون في صحائفكم الأجر الكريم.

ومن أراد التوسع في موضوع الدعوة عند الصحابة الكرام رضوان الله تعالى عنهم، فليرجع إلى كتاب حياة الصحابة للشيخ محمد يوسف الكاندهلوي.

أما قصص الدعاة في وقتنا الحاضر فكثيرة جداً، منها في هذا العصر دعوة الدكتور عبد الرحمن السميط الداعية الكويتي ، تعلم الطب في بغداد وكندا وليفربول وكان طبيبا في مستشفى الصباح في الكويت ، لكنه آثر الدعوة إلى الله تعالى ، فكان أعجوبة في ذلك .
وله أعمال وإنجازات عظيمة جداً .

فهو مؤسس جمعية العون المباشر، وكان اسمها سابقاً لجنة مسلمي إفريقيا
، وهو رئيس مجلس البحوث والدراسات الإسلامية .
أصدر أربعة كتب وهي: لبيك أفريقيا ، دمعة على أفريقيا، رسالة إلى ولدي، العرب والمسلمون في مدغشقر، بالإضافة إلى العديد من البحوث والمقالات التي نشرت في صحف متنوعة.

جامع اﻹيمان الشيخ محمد نعيم عرقسوسي

16 Nov, 20:05


شارك في تأسيس ورئاسة جمعية الأطباء المسلمين في أمريكا وكندا عام ١٩٧٦ ولجنة مسلمي ملاوي في الكويت عام ١٩٨٠.
وهو عضو مؤسس في الهيئة الخيرية الإسلامية العالمية.
وعضو مؤسس في المجلس العالمي للدعوة و الإغاثة.
ورئيس تحرير مجلة الكوثر المتخصصة في الشأن الإفريقي.
وعضو مجلس أمناء منظمة الدعوة الإسلامية في السودان.
وعضو مجلس أمناء جامعة العلوم والتكنولوجيا في اليمن.
ورئيس مجلس إدارة كلية التربية في زنجبار.
ورئيس مجلس إدارة كلية الشريعة والدراسات الإسلامية في كينيا.
ورئيس مركز دراسات العمل الخيري حتى وفاته.
ساهم في تأسيس لجنة مسلمي أفريقيا عام ١٩٨١ وهي أول مؤسسة إسلامية متخصصة.
ولجنة الإغاثة الكويتية التي ساهمت بإنقاذ أكثر من ٣٢٠ ألف مسلم من الجوع والموت في السودان وكينيا والصومال خلال مجاعة عام ١٩٨٤
شارك في كثير من الندوات واللقاءات والمحاضرات في مختلف البلدان العربية والأسيوية والأوروبية وأمريكا.

قام ببناء ١٠٢ مركز إسلامي متكامل.
عقد ١٤٥٠ دورة تأهيلية للمعلمين وأئمة المساجد.
دفع رسوم الدراسة عن ٩٥ ألف طالب مسلم فقير
قدم أكثر من ٢٠٠ منحة دراسية للدراسات العليا في الدول الغربية.
نفذ عدة مشاريع زراعية على مساحة ١٠ ملايين متر مربع.
بنى ٢٠٠ مركز لتدريب النساء.
تكفل بإقامة عدد من المخيمات الطبية ومخيمات العيون للمحتاجين مجاناً.

وضع البذور الأولى لجامعة الأمة في كينيا، وتعتبر الجامعة الأولى للمسلمين في كينيا وتحتوي على خمس كليات هي الطب والهندسة وإدارة الأعمال وتقنية المعلومات والدراسات الإسلامية والعربية.
بنى ما يقارب من ٥٧٠٠ مسجدً وحفر حوالي ٩٥٠٠ بئراً ارتوازية في أفريقيا.
أنشأ ٨٦٠ مدرسة و ٤ جامعات.
قام ببناء ١٢٤ مشفى ومستوصف و ٨٤٠ مدرسة قرآنية.
دفع رواتب شهرية ل ٣٢٨٨ داعية ومعلماً.
قام بتوزيع ١٦٠ ألف طن من الأغذية والأدوية والملابس.
أسلم على يديه أكثر من ١١ مليون شخص في أفريقيا بعد أن قضى أكثر من ٢٩ سنة ينشر الإسلام فيها، أي بمعدل ما يقرب من ٩٧٢ مسلما يوميا.
كان طبيبا متخصصا في الأمراض الباطنية والجهاز الهضمي تخرج من جامعة بغداد ثم حصل على دبلوم أمراض المناطق الحارة من جامعة ليفربول عام ١٩٧٤ واستكمل دراساته العليا في جامعة ماكجل الكندية.

نال عدداً من الأوسمة والجوائز والدروع والشهادات التقديرية من مختلف البلدان العربية والأفريقية، مكافأة على جهوده في الأعمال الخيرية، منها وسام فارس العمل الخيري من إمارة الشارقة عام ٢٠١٠.
ومن أرفع هذه الجوائز جائزة الملك فيصل العالمية لخدمة الإسلام عام ١٩٩٦ والتي تبرع بمكافأتها البالغة ٧٥٠ ألف ريال لتكون نواة للوقف التعليمي لأبناء أفريقيا، ومن عائدات هذا الوقف تلقت أعداد كبيرة من أبناء أفريقيا تعليمها في الجامعات المختلفة.
تعرض في أفريقيا لمحاولات قتل مرات عديدة بسبب حضوره الطاغي في أوساط الفقراء والمحتاجين.
كما حاصرته أفعى الكوبرا الخطيرة أكثر من مرة في موزمبيق وكينيا لكنَّه نجا.
هذا بالإضافة إلى تعرضه للسع البعوض في تلك القرى وشح المياه وانقطاع الكهرباء .
كان يأتي الكويت فقط للزيارة أو العلاج، كما مارس الدعوة إلى الله في العراق وبلاد الاسكيمو.
كانت سلسلة رحلاته في أدغال أفريقيا والتنقل في غاباتها محفوفة بالمخاطر .

كان مريضا بالضغط والسكر والجلطات،
استمر يعمل في الدعوة حتى بعد أن ثقلت حركته ورغم إصابته بمرض السكري وبآلام في قدمه وظهره،

تدهورت حالته الصحية في أواخر سنواته إلى أن توفي في يوم الخميس 15 آب عام 2013 .وكانت ولادته سنة 1947 ، فعمره ست وستون سنة

اللهم اجعلنا من الدعاة إلى دينك وشريعتك يا رب العالمين.


وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

و الحمد لله رب العالمين.

جامع اﻹيمان الشيخ محمد نعيم عرقسوسي

05 Nov, 18:28


جلسة الصفا

29 ربيع الآخر 1446
1 تشرين الثاني 2024

لفضيلة الشيخ
محمد نعيم عرقسوسي

بعنوان:
*فضل المصلحين وأثرهم في الأمة*

بسم الله الرحمن الرحيم

بدأنا فيما سبق بالحديث عن هذا الموضوع الحيوي ذي الأهمية الكبرى، وهو موضوع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والذي قال العلماء فيه لأهميته:
هو نوعٌ من الجهاد وجزءٌ منه .

إذ الجهاد يُراد به حماية البلاد وحدودها وترابها ومقدساتها ودفع الأعداء الخارجيين عن النيل من شيءٍ من حرماتها وسيادتها .

والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يراد به حماية الأمة ومبادئها وقيمها وأخلاقها، وردعُ المفسدين داخل صفوفها من نشر إفسادهم وإلجامُهم عن بث الانحلال في الأخلاق والترويج للمعاصي والمنكرات التي بها ضعف الأمة ووهنها وانهيار الفضائل والقيم السامية فيها.

وقد عدَّ بعضهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الركن السادس من أركان الإسلام

وبصرف النظر عن هذا التصنيف، فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو في الحقيقة رسالة إصلاح لما فسد، وهو واجب على كل مسلم ، كلٌ في حدود علمه واستطاعته.
قال الطاهر ابن عاشور في كتابه " أصول النظام الاجتماعي في الإسلام":
يُعتبر الإصلاح هو الغرض الأسمى للإسلام، لأنه يقوم على إصلاح البشر من جميع نواحي حياتهم، وبإصلاح البشر يستقيم صلاح نظام العالم.

ومنزلة المصلحين بين الأمم كمنزلة الأطباء والمعالجين، فكما أن الأطباء يعالجون الأمراض الجسدية، فكذلك المصلحون يعالجون الأمراض الأخلاقية والنفسانية المهلكة للأمة.

ولذلك أمر الله تعالى أن يقوم الناس بمهمة الإصلاح، وأثنى على المصلحين، وأخبر أن ثوابهم لا يضيع عنده، فقال سبحانه وتعالى: *إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ*.
وقال تعالى ذلك بالإسناد إلى ضمير نا العظمة(إِنَّا لَا نُضِيعُ) ، وذلك لأن أمر الإصلاح أمر عظيم ويترتب عليه الأجر العظيم.

وأخبر الله تعالى أن وجود المصلحين في المجتمع هو الضمان لسلامة الأمة ونجاتها من عقاب الله تعالى الذي يأتي بصور عديدة، فقال تعالى:
*وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ*
وهذا النفي يسمى في العربية نفي الجحود، وهو أبلغ أنواع النفي، ونفي العذاب والهلاك عن البلاد إنما كان وأهلها مصلحون.
لم يقل: وأهلها صالحون، إنما قال: (وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ)، لأن الصالحين في أنفسهم إذا لم يتصدوا للنهي عن الفساد، فإن صلاحهم الفردي المحصور في أشخاصهم، لا يدفع عن الأمة البلاء والوبال.

وهذا هو الذي قاله وبيَّنه سيدنا محمد ﷺ ، فروى البزار والطبراني وغيرهم من حديث سيدنا عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنهما قال: سئل رسول الله ﷺ:
أنهلك وفينا الصالحون؟، قال: نعم، قيل بم يا رسول الله؟، قال: بتهاونهم وسكوتهم عن معاصي الله عز وجل.

وقال النبي ﷺ ذلك في مناسبة أخرى تأكيدا لهذا المعنى ، فروى الإمام البخاري ومسلم عن أم المؤمنين زينب رضي الله تعالى عنها، أنها قالت: سألت رسول الله ﷺ: يا رسول الله ، أنهلك وفينا الصالحون؟، قال ﷺ: نعم إذا كثر الخبث .

والخبث هو الفسوق والفجور والمعاصي وشرب الخمور والسفور، وتبرج الجاهلية والخلاعة والميوعة والحفلات الماجنة والغناء الساقط والفن الهابط والموضات الفاضحة.
فإذا كثر المجترئون على هذه المنكرات وهذا الخبث دون رادع ولا زاجر، ولم يقم أحد بواجب الإصلاح، فحينئذ يعمهم الهلاك، كما قال تعالى:
*وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَّا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً*

وفي الوقت ذاته أخبر الله تعالى أن المصلحين الذين ينهون عن الفساد في الأرض هم الذين ينجيهم الله تعالى، فقد ذكر الله تعالى القرية التي حرم الله عليهم الصيد في يوم السبت ، فاحتالوا على أمر الله تعالى ، فكانوا يصيدون يوم السبت بشكل غير مباشر، وقامت فئة منهم نهتهم عن ذلك فلم ينتهوا، قال تعالى:
(فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ)

ولذلك حثَّ الله تعالى الناس أن يكون فيهم من ينهى عن الفساد ويقوم بواجب الإصلاح ليدرأ عن الأمة أسباب البلاء والضعف والوهن والهوان، فقال تعالى:
(فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ) ۗ
ومعنى (أولو بقية) أي أولو طاعة وأولو خير، يقال: فلان ذو بقية، إذا كان فيه خير، ومعنى الآية:
هلا كان في الأمم السابقة من فيه خير ينهى عن الفساد في الأرض.

ثم قال تعالى: (إلا قليلا ممن انجينا منهم)

جامع اﻹيمان الشيخ محمد نعيم عرقسوسي

05 Nov, 18:28


أي : لكن قد وجد من هذا الضرب عدد ٌ قليل لم يكونوا كثيراً وهم الذين كانوا ينهون عن الشرور والمنكرات والفساد في الأرض، وهم الذين انجاهم الله تعالى عند فجأة نقمه.
وهذه الآية تكشف عن سنة من سنن الله تعالى في الأمم، وهي أن الأمة التي يقع فيها الفساد فيوجد من ينهض لدفعه، هي أمة ناجية، وأما الأمة التي يفسد فيها المفسدون ولا ينهض من يدفع الفساد أو من يستنكر، فإن سنة الله تعالى تحقُّ عليها، إما بهلاك الاستئصال، أو بهلاك الوهن والانحلال والوهن والاختلال.

وأنت إذا قمت بواجب الإصلاح ونهيت غيرك عن ارتكاب المعاصي والمنكرات ومخالفة أوامر الله تعالى، كتبك الله تعالى عنده من المصلحين ولو لم يستجب لك إلا العدد القليل أو لم يستجب لك أحد.
فقد روى الإمام البخاري ومسلم عن سيدنا عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهما قال:
خرج علينا النبي ﷺ يوماً، فقال: عُرضت عليَّ الأمم، فجعل يمرُّ النبي معه الرجل، والنبي معه الرجلان، و النبي معه الرهط، والنبي ليس معه أحد.
معنى ذلك أن النبي ولو لم يستجب له أحد يبقى في زمرة النبيين وفي مرتبة الإصلاح، فلو لم يستجب لك أحد قم بواجب الإصلاح، ويبشرك الله تعالى بقوله: (إنا لا نضيع أجر المصلحين).

وقد قال ربنا سبحانه وتعالى للنبي ﷺ:
*فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ*
وقال:
*فَإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ**

وقال له:
*إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ*
وقال له:
*فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصيْطِرٍ*

وقد قص الله تعالى علينا في القرآن الكريم سير بعض المرسلين الذين بذلوا جهدهم وقاموا بواجب إصلاح قومهم، ولو لم يستجب لهم أحد، من ذلك سيدنا إبراهيم قال تعالى: فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ
مع أن إبراهيم عليه السلام أبو الانبياء،

وذكر الله تعالى في القرآن الكريم قصة مصلحٍ وليس بنبي، لم يستجب له أحد، وهو مؤمن يس، الذي جاء من مكان بعيد لينصح أهل بلده بالاستجابة للرسل الذين أرسلوا إليهم، فقال تعالى:
*وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَىٰ قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ*

وقوله (مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ)، إظهار لاهتمام هذا الداعي وشدة رغبته في الإصلاح، حيث لم يثبطه بعد المسافة عن السعي إلى ذلك .
وقوله: (يسعى) تذكرة لدعاة الإصلاح وإيقاظ لهممهم كي ينفقوا في هذه الغاية وسعهم ويسارعوا إلى النصيحة جهدهم
.
فناداهم (يا قوم،) وهو نداء تحبب ونداء انتماء إليهم، واتبعه بقوله: (اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ) .
ثم ذكر صفات هؤلاء المرسلين التي تدعو إلى الاستجابة لهم، فقال: (اتَّبِعُوا مَن لَّا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُم مُّهْتَدُونَ)
، أي : إن هؤلاء الرسل لا يسعون إلى مجد شخصي ولا إلى غرض دنيوي ولا إلى نفع مادي، هم مخلصون، وهم كذلك مهتدون، أي هم على الصواب والرشاد والصراط المستقيم، أي اتبعوا من لا تخسرون معهم شيئا من دنياكم وتربحون صحة دينكم.
إلى آخر هذه القصة العظيمة التي فيها بيان رائع وعرض بليغ من هذا الرجل، وتحتاج إلى شرح مستقل، مع شرح قصة مصلح آخر ذكره الله تعالى في القرآن الكريم، وهي قصة مؤمن آل فرعون.

إن الإصلاح والدعوة إلى الإصلاح هي مهمة الأنبياء والمرسلين، صرح به سيدنا شعيب عليه السلام حين قال لقومه:
*وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَىٰ مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ ۚ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ ۚ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ*

وليس ثمة عمل افضل من عمل الإصلاح، قال تعالى:
(ومَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ)
فهو صالح ومصلح في آن واحد.

وليست ثمة عبادة أعظم أجرأ من عبادة الدعوة إلى الإصلاح، روى البغوي في كتابه "شرح السنة" عن الإمام الشعبي رحمه الله تعالى قال:
خرج ناس من أهل الكوفة إلى الجبانة يتعبدون، وبنوا بنياناً واتخذوا مسجداً، فأتاهم عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه فقالوا: مرحباً بك يا أبا عبد الرحمن، لقد سررنا وسرَّنا أن تزورنا، قال: ما أتيتكم زائراً، ولست الذي أترك حتى يهدم ما بنيتموه، هل أنتم أهدى من أصحاب رسول الله ﷺ ؟؟!!، أرأيتم لو أن الناس صنعوا كما صنعتم، من كان يجاهد العدو، من كان يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، من كان يقيم الحدود؟؟!!!، ارجعوا فتعلموا ممن هو أعلم منكم، وعلموا من أنتم أعلم منهم، وما ترك حتى هدموا البناء والمسجد.

لقد رفض سيدنا عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه فكرة اعتزال المجتمع ولو للتعبد، وقال: إذا فعل الناس كلهم مثلكم، من الذي يأمر بالخير وينهى عن الشر؟؟!!.

والإصلاح يحتاج إلى صبر ومعاناة، لكن الأجر عظيم، ذكره الله تعالى في سورة العصر ، فقال تعالى :

(وَٱلۡعَصۡرِ (1) إِنَّ ٱلۡإِنسَٰنَ لَفِي خُسۡرٍ (2) إِلَّا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰالِحَٰاتِ وَتَوَاصَوۡاْ بِٱلۡحَقِّ وَتَوَاصَوۡاْ بِٱلصَّبۡرِ (3))

جامع اﻹيمان الشيخ محمد نعيم عرقسوسي

05 Nov, 18:28


وروى الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه عن عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله ﷺ:
بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ فطوبى للغرباء، قيل: ومن الغرباء يا رسول الله؟، قال: الذين يُصلحون حين يفسد الناس.

فهنيئاً لمن يقوم بهذه المهمة العظيمة، مهمة الأنبياء والمرسلين والمصلحين.
قال ﷺ:
لأن يهدي بك الله رجلاً واحد خير لك مما طلعت عليه الشمس.

اللهم اجعلنا من الصالحين المصلحين يا رب العالمين.

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

و الحمد لله رب العالمين.

جامع اﻹيمان الشيخ محمد نعيم عرقسوسي

27 Oct, 20:07


فضيلة الشيخ محمد نعيم عرقسوسي
حسنة الدنيا

جامع اﻹيمان الشيخ محمد نعيم عرقسوسي

20 Oct, 17:36


جلسة الصفا

15 ربيع الآخر 1446
18 تشرين الأول 2024

لفضيلة الشيخ
محمد نعيم عرقسوسي

بعنوان:
*أسلوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر*

بسم الله الرحمن الرحيم

نتابع ما بدأناه في الدروس السابقة عن واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن هذا واجب كل مسلم، كل في حدود علمه واستطاعته .

وتبيَّن لنا أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو خط الدفاع الحصين عن الدين، وأنه الحارس الأمين الدائم الذي يرقى بالمجتمع ويسد نوافذ الشر والخلل فيه.
وهو من أعظم الأسباب في صلاح المجتمع وسلامته من عقاب الله سبحانه و تعالى واستقامته على الصراط المستقيم.

وهذا الواجب إنما يقوم به من لديه غيرة على دينه وحرص على سلامة مجتمعه من الانحرافات والاختراقات الشيطانية، ليكون في عداد أخيار الأمة، وليدخل في الخيرية التي ذكرها الله تعالى في قوله عز وجل:
(كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ)

ونلاحظ أن الله تعالى قدم في هذه الآية الكريمة قوله: (تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ) على قوله: (وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) إشارة إلى أهمية الأمر بالمعروف وفضيلته، وأنه الدرع والحارس والحافظ للإيمان بالله تعالى، ذلك أنه إذا شاعت الفواحش والمعاصي والمنكرات، ولم يقم أحد بالنهي عنها والتحذير منها، فإن المعاصي بريد الكفر.

روى الإمام أحمد عن دُرَّة بنت أبي لهب رضي الله تعالى عنها، قالت: قام رجل إلى النبي ﷺ وهو على المنبر، فقال: يا رسول الله، أي الناس خير؟، فقال ﷺ:
خير الناس أقرؤهم وأتقاهم لله وآمرهم بالمعروف وأنهاهم عن المنكر وأوصلهم للرحم.

وروى ابن جرير الطبري عن قتادة قال: بلغنا أن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قرأ هذه الآية:
(كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ)
ثم قال:
من سره أن يكون من تلك الأمة فليؤدِّ شرط الله فيها، ومن لم يتَّصِف بذلك أشبه أهل الكتاب الذين ذمهم الله تعالى بقوله:
(كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ)

وروى البزار والطبراني من حديث ابن عباس رضي اهله تعالى عنه قال: قيل: يا رسول الله، أتهلك القرية وفيها الصالحون؟!!، قال: نعم، قيل: بم يا رسول الله؟؟، قال: بتهاونهم وسكوتهم عن معاصي الله عز وجل.

قال بلال بن سعد: إن المعصية إن أُخْفِيَت لم تضر إلا صاحبها، فإذا أُعْلِنَت ولم تُغَيَّر أضرَّت بالعامة.

وهذا الواجب الملقى على عاتق كل مسلم إنما ينبغي القيام به بالرفق واللين، أخذاً من قوله تعالى:
(ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)
وقوله عز وجل لموسى وهارون حين أرسلهما إلى فرعون:
(فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى)
إلى غير ذلك من الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة التي أمرت بالرفق واللين في ذلك.

وقد طبق النبي ﷺ في دعوته وأمره بالمعروف ونهيه عن المنكر هذا المنهج الرباني في كثير من مواقفه ومشاهده ﷺ.

من ذلك طريقته الحكيمة وأسلوبه الرائع في التعامل مع شباب كانوا يستهزؤون بالأذان ويقلِّدون صوت المؤذن غيظاً وهزءاً، وهذا استهزاء بالدين، وهؤلاء لقيهم النبي ﷺ في طريق عودته إلى المدينة بعد غزوة حنين، فماذا فعل بهم النبي ﷺ ؟، سنجد أن طريقته ﷺ فيها من العجب ما فيها .

وها هو أحد هؤلاء الشباب، وكان أحسنهم صوتاً، وهو أبو محذورة، وكان عمره ست عشرة سنة، يحكي لنا ما الذي جرى لهم مع النبي ﷺ :

فروى الإمام أحمد في المسند وأبو داود والنسائي وغيرهم عن أبي محذورة قال: خرجتُ في عشرة فتيان، فكنا ببعض طريق حنين، فقفل رسول الله ﷺ من حنين، فلقينا رسول الله ﷺ ببعض الطريق وهو أبغض الناس إلينا، فأذَّن مؤذن رسول الله ﷺ للصلاة عند رسول الله، فسمعنا صوت المؤذن ونحن متنكبون (أي متنحون عن طريق رسول الله ﷺ) ، فصرخنا نحكيه، (أي نقلده،) نستهزىء بهم، فسمع رسول الله ﷺ الصوت، فقال: ائتوني بهؤلاء الفتيان، فأرسل إلينا إلى أن وقفنا بين يديه، فقال رسول الله ﷺ: أيكم الذي سمعت صوته قد ارتفع، فأشار القوم كلهم إليَّ، وصدقوا، وفي رواية، قال لهم النبي ﷺ: أذِّنوا، فأذنوا، فكنت أحدهم، فقال النبي ﷺ: نعم هذا الذي سمعت صوته، فأرسلَهم كلهم وحبسني ،
ثم قال لي : قم فأذن بالصلاة، فقمت ولا شيء أكره إليَّ من رسول الله ﷺ ، ولا مما يأمرني به، فقمت بين يدي رسول الله ﷺ ، وألقى إليَّ رسول الله ﷺ التأذين هو بنفسه، فقال: قل: الله أكبر الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، إلى آخر الأذان، قال: ثم دعاني حين قضيت التأذين، فأعطاني صرَّةٌ فيها شيء من فضة .

جامع اﻹيمان الشيخ محمد نعيم عرقسوسي

20 Oct, 17:36


ثم وضع النبي ﷺ يده على ناصية أبي محذورة، ثم أمرَّها على وجهه مرتين ثم على صدره، ثم قال رسول الله ﷺ له : بارك الله فيك، فقلت: يا رسول الله ، مرني بالتأذين بمكة، فقال: قد أمرتك به، وذهب كل شيء كان لرسول الله ﷺ من كراهية، وعاد ذلك محبة لرسول الله ﷺ ، فقدمت على عتاب بن أسيد عامل رسول الله ﷺ بمكة، فأذنت معه بالصلاة عن أمر رسول الله ﷺ.
وأصبح أبو محذورة رضي الله تعالى عنه منذ ذلك اليوم مؤذن النبي ﷺ بمكة، واشتهر عنه أنه لم يكن يحلق مقدم رأسه، لأن النبي ﷺ مسح على مقدمة رأسه عندما علمه الأذان.
جاء في مسند الإمام أحمد: كان أبو محذورة لا يجز ناصيته ولا يفرقها لأن رسول الله ﷺ وسلم مسح عليها.
قال الواقدي المتوفى سنة 207 للهجرة: وبقي الأذان في ولده وولد ولده إلى اليوم بمكة .
وقالوا: ظلت ذرية أبي محذورة يؤذون قرابة الثلاث مئة عام بفضل دعاء النبي ﷺ له ولذريته، فقد كانوا أصحاب حنجرة ذهبية ربانية.

وهكذا بالكلام الطيب واللمسة الحانية، امتلك النبي ﷺ قلب أبي محذورة، وقلبه من البغض إلى الحب، وحوَّله من الكفر إلى الإيمان .
وثمة وقائع كثيرة استعمل فيها النبي ﷺ الرفق في النهي عن المنكر.

وعلى هذا النهج الحكيم والرفق واللين مضى أصحاب رسول الله ﷺ والصالحون.
فروى ابن أبي حاتم، فيما نقله ابن كثير في التفسير، بإسناده إلى يزيد بن الأصم، قال:
كان رجل من أهل الشام ذو بأس يفد إلى عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، ففقده عمر، فقال : ما فعل فلان بن فلان؟ فقالوا: يا أمير المؤمنين، يُتابع في هذا الشراب، فدعا عمر كاتبه، فقال: اكتب : من عمر بن الخطاب إلى فلان بن فلان، سلام عليك، أما بعد: فإني أحمد إليك الله الذي لا إله هو، غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا هو إليه المصير.
ثم قال عمر لأصحابه: ادعوا الله لأخيكم أن يقبل عليه، وأن يتوب الله عليه .
فلما بلغ الرجل كتاب عمر جعل يقرؤه ويردده، ويقول: غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب، قد حذَّرني عقوبته، ووعدني أن يغفر لي، فلم يزل يرددها على نفسه، ثم بكى، ثم نزع، فأحسن النزع، فلما بلغ عمر رضي الله تعالى عنه خبره قال: هكذا فاصنعوا، إذا رأيتم أخاكم زلَّ زلة فسددوه ووفقوه، وادعوا الله له أن يتوب عليه، ولا تكونوا أعواناً للشيطان عليه.

وروى ابن أبي الدنيا في كتابه "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" وأبو نعيم في "حلية الأولياء" عن حماد بن سلمة قال:
إن صلة بن أشيم مرَّ عليه رجلٌ قد أسبل إزاره، فهمَّ أصحابه أن يأخذوه بشدة، فقال: دعوني أنا أكفيكم، فقال: يا ابن أخي، إن لي إليك حاجة؟، قال وما حاجتك يا عم؟، قال: أحبُّ أن ترفع إزارك، قال نعم وكرامة، فرفع إزاره، فقال لأصحابه: لو أخذتموه بشدة لقال: لا ولا كرامة، وشتمكم.

وهناك قصص أخرى لامجال لذكرها الآن، ولكن يكفي ما ورد في الأثر عن سيدنا علي رضي الله تعالى عنه و سفيان الثوري وغيرهم أنهم قالوا:
لا يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر إلا من كان فقيهاً فيما يأمر به، فقيهاً فيما ينهى عنه، رفيقاً فيما يأمر به، رفيقاً فيما ينهى عنه، حليماً فيما يأمر به، حليماً فيما ينهى عنه.
وقالوا:
ليكن أمرك بالمعروف بمعروف، ونهيك عن المنكر بغير منكر.

هذا هو المنهج والأسلوب الذي يجب أن ننتهجه جميعاً في واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
نسأل الله تعالى أن يجعلنا مفاتيح خير مغاليق شر، إنه سميع قريب مجيب.

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

و الحمد لله رب العالمين.

جامع اﻹيمان الشيخ محمد نعيم عرقسوسي

05 Oct, 14:13


جلسة الصفا

1 ربيع الآخر 1446
4 تشرين الأول 2024

لفضيلة الشيخ
محمد نعيم عرقسوسي

بعنوان:
*كيفية التعامل مع الأبوين*

بسم الله الرحمن الرحيم

مرَّ معنا في الدرس الماضي كيف أن سيدنا إبراهيم عليه السلام حين وعظ أباه ودعاه إلى عبادة الله تعالى وترك عبادة الأوثان، خاطبه بأرق العبارات وألطف الكلمات، وابتدأ كل جملة قالها له بقوله: (يا أبت)، بهذه الكلمة الرقيقة التي تثير المشاعر وتحرك العواطف، ولمَّا قابله أبوه بالغلظة والفظاظة وقال له: لأرجمنَّك، لم يقابله سيدنا إبراهيم بمثل ذلك، بل ثبت على رفقه ولطفه ولين خطابه، وقال له: سلام عليك، ووعده أن يدعو له فقال له: سأستغفر لك ربي .

فإذا كانت مخاطبة الأب الكافر عابد الوثن بهذا الخطاب الحسن والأسلوب الرائع ، فكيف ينبغي أن تكون مخاطبة الأب المؤمن والأم المؤمنة؟؟.

هذا ما يدعونا إلى أن نقف عند هذه المسألة المهمة والقضية الشرعية في التعامل مع الوالدين .

ويكفي لبيان أهمية حسن العلاقة مع الوالدين، أن الله تعالى قرن البر بالوالدين والإحسان إليهما بعبادته وتوحيده ، فقال تعالى:
(واعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا)
وقال:
(وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا)
وقال:
(أن اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ)
وكان هذا الأمر الإلهي بالإحسان إلى الوالدين موجهاً إلى جميع الأمم، فقد قال سبحانه وتعالى:
(وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا)

ثم جاءت وصية خاصة بالوالدين في ثلاثة مواضع في القرآن الكريم.
فقال تعالى:
(وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا)
وقال:
(وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حملته أمه وهناً على وهن وفصاله في عامين)
وقال:
(وَوَصَّيْنَا ٱلْإِنسَٰانَ بِوَٰلِدَيْهِ إِحْسَٰانًا)

وذكَّر الله تعالى الحيثيات التي من خلالها أوجب على المرء الإحسان إلى والديه، فذكر منها معاناة الأم وما تحملته من آلام في تربية ولدها وما صبرت فيه على إطعامه وسقايته وإزالة الأذى عنه، فقال تعالى:
(حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ)
وقال:
(حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا ۖ وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا)

إنها مدة مديدة والأم تقوم بخدمة ولدها على أحسن وجه، لا يقر لها عين ولا يهدأ لها بال إلا إذا رأت طفلها شبعان ريان معافى نظيفا سالما من الأذى، لا همَّ لديها أعظم من اهتمامها بولدها، ولا سعادة عندها إلا بسعادة ولدها.

فهل يليق بولدها إذا اشتدَّ عوده وبلغ أشده أن يقابلها بالغلظة والفظاظة وقبيح الأقوال والأفعال وقلة الاهتمام وقلة الاحترام؟؟!!
أيجوز للعاقل أن ينسى المعروف ويتنكر للجميل؟؟!!.
وأي جميل، جميل أنقذه من الهلاك والضياع، فلولا عطف الأم وحنانها وحضانتها لولدها الرضيع الذي لا قوة لديه، ولا يستطيع أن يتدبر شؤون نفسه من طعام وشراب ورفع أذى، لولا ذلك لمات الولد ولم تستمر به الحياة .
لذلك كانت وصية الله تعالى الخالق العظيم بالوالدين عموما وبالأم خصوصاً، وصية حاسمة صارمة مؤكدة تأكيدا ليس له مثيل.

وبلغت وصية الله تعالى بالوالدين ولو كانا كافرين، بل ولو كانا يسعيان جاهدين في ردِّ ابنهما عن دين الإسلام، فلا يطعهما في ذلك، ولا يكون ذلك مسوغاً لأن يسيء معاملتهما أو يؤذيهما، فقال تعالى:
(وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَىٰ أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا)

أي إن حرص الوالدان كل الحرص على أن تتابعهما على دينهما فلا تقبل منهما ذلك، ومع ذلك لا يمنعنك ذلك من أن تصاحبهما في الدنيا معروفاً، فقال تعالى :
(وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا)
اي ولو كانا كافرين عاصيين.

لذلك لما قدمت أم أسماء بنت أبي بكر الصديق وكانت مشركة، على ابنتها أسماء وهي راغبة في أن تصلها ابنتها، سألت أسماء النبي ﷺ فقالت له:
يا رسول الله قدمت علي أمي وهي راغبة، أفاصل أمي؟، فقال لها النبي ﷺ: نعم صلي أمك.
روى حديثها الإمام البخاري ومسلم وغيرهما.

واشتدت وصية الله تعالى بالوالدين عند كبر سنِّهِما واشتداد حاجتهما إلى ولدهما، فقال تعالى:
(إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا)
أي : لا تسمعهما قولا سيئاً، ولا التأفف الذي هو أدنى مراتب القول.

ونسأل:
لماذا نهى الله تعالى عن أن يتضجر الولد من أبويه وأن يتلفَّظ بكلمة أُف؟؟
والجواب:
لأن الوالد عندما يكبر ويشيخ قد تصدر منه تصرفات أو طلبات بسبب كبر السن تدعو إلى التضجر منه، ففي هذه الحالة ومع وجود ما قد يدعو إلى الضجر والتململ، منع الله تعالى الولد أن يظهر الضجر لوالديه ويقول لهما هذه الكلمة القبيحة التي هي _ ولو كانت قليلة بحروفها _ مؤلمة بمعناها وأثرها على النفس، ولها وقع جارح في

جامع اﻹيمان الشيخ محمد نعيم عرقسوسي

05 Oct, 14:13


القلب والمشاعر.

ولم يكتف البيان الإلهي بالتحذير والمنع من القول السيئ ، بل أمر الولد أن يقول لأبويه كلاماً كريماً لطيفاً رفيقاً يجبر الخاطر ويسر المشاعر، فقال تعالى:
(وَقُلْ لَهُمَا قَوْلا كَرِيمًا)
والكريم من كل شيء : الرفيع في نوعه، يعني يتخيَّر لوالديه أرقَّ الكلمات وأجمل الألفاظ والعبارات.

ثم ارتقى في الوصاية بالوالدين إلى أمر الولد بالتواضع لهما تواضعاً يبلغ حد الذُّل لهما لإزالة وحشة نفوسهما فقال تعالى:
(واخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ)

تأملوا في قوله تعالى:
(جَنَاحَ الذُّلِّ)، إذ يفيد أن الذلَّ للوالدين والتواضع لهما جناحٌ يرتقي به الإنسان ويعلو، لأن وظيفة الجناح أن يعلو بصاحبه، فالتذلُّل للوالدين هو رفعةٌ وشرفٌ وعزٌ للولد، وهو ذلُّ رحمة لهما قال تعالى: (جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ.)

أما التكبُّر عليهما وعقوقهما، فهو مذلة ومهانة وصغار للولد، لذا جاء التعبير القرآني بهذا التصوير الرائع لبيان أن أعظم حالات الإنسان وأرفعها هي في بره لوالديه، وإحسانه وتواضعه لهما.

وهذه بعض صور التذلل للوالدين عند السلف الصالح:
قال سيدنا عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهما:
كن مع الوالدين كالعبد المذنب الذليل للسيِّد الفظ الغليظ.

وروى الإمام أحمد والنسائي وابن ماجه عن معاوية بن جاهمة السَّلمي أن جاهمة جاء إلى النبي ﷺ فقال:
يا رسول الله، أردت الغزو وجئتك أستشيرك، فقال النبي ﷺ: فهل لك من أم؟، قال: نعم، فقال: الزمها فإن الجنة عند رجليها.

وروى الإمام البخاري في الأدب المفرد عن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري أن ابن عمر رضي الله تعالى عنه شهد رجلاً يمانياً يطوف بالبيت حمل أمه وراء ظهره، فسأل ابن عمر: إني لها بعيرها المذلل، أتراني جزيتُها؟، فقال ابن عمر: لا، ولا بزفرة واحدة . يعني مما يعرض للمرأة عند الولادة.

وقال سعيد بن عامر: بات أخي يصلي، وبتُّ أغمز قدم أمي، وما أحبُّ أن ليلتي بليلته.
وعن عبد الله بن عون أن أمه نادته فأجابها فعلا صوته صوتها، فأعتق رقبتين.
وكان محمد بن سيرين إذا اشترى لوالدته ثوباً اشترى أليَنَ ما يجد، فإذا كان يوم عيد صبغ لها ثيابها، وما رفع صوته عليها، فكان يكلمها كالمصغي إليها، ومن رآه عند أمه ظنَّ أن به مرضاً من خفض كلامه عندها.
وكان محمد بن المنكدر يضع خده على الأرض ثم يقول لأمه: ضعي قدمك على خدي.

ومع كل هذا الإحسان والبر واللين لا يكون الولد قد قام بحق والديه كاملاً تاماً مرحبا، لذا أمرالله تعالى الولد أن يلجأ بالدعاء أن يجزيهما عنه خير الجزاء، وان يرحمهما من عنده ، فقال تعالى:
(وقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا)
وهي الرحمة التي لا يستطيع الولد إيصالها إلى أبويه إلا بالابتهال إلى الله تعالى
وقد انتقل إلى هذا الدعاء انتقالاً بديعاً من قوله تعالى: (وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ)
، فقال بعد ذلك مباشرة:
(وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا)

و في الآية إيماء إلى أن الدعاء لهما مستجاب، لأن الله تعالى أذن فيه، ويؤيد ذلك حديث النبي ﷺ: إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث، صدقة جارية، وعلم بثَّه في صدور الرجال، وولد صالح يدعو له.
فقوله تعالى: (كما ربياني صغيراً،) بمعنى التعليل، أي كما ربياني ورحماني بتربيتهما، والتربية تكملة للوجود وحفظ للوجود، فجمع الشكر على ذلك كله بالدعاء لهما بالرحمة.

والأمر يقتضي الوجوب .
وأما مواقع الدعاء لهما فلا تنضبط، وهو بحسب حال كل امرىء في أوقات ابتهاله ودعائه، قال سفيان بن عيينة: إذا دعا لهما في كل تشهد فقد امتثل.

قال بعض الصحابة الكرام: ترك الدعاء للوالدين يُضيِّق العيش على الولد.

اللهم أكرمنا بِبِرِّ والدينا والإحسان إليهما يا رب العالمين.

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

و الحمد لله رب العالمين.

جامع اﻹيمان الشيخ محمد نعيم عرقسوسي

04 Oct, 09:48


قال أبو السعود:
لقد سلك إبراهيم عليه السلام في دعوته أحسن منهاج وأقوم سبيل، واحتج عليه أبدع احتجاج بحسن أدب وخلق جميل،لئلا يركب متن المكابرة والعناد، حيث طلب منه علة عبادته بما يستخف به عقل كل عاقل ويأبى الركون إليه، فضلاً عن عبادته التي هي الغاية القاصية من التعظيم،

ثم انتقل سيدنا إبراهيم إلى بيان الذي حمله على دعوة أبيه، فقال له:
(يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا)

يعني وإن كنت من صلبك وترى أني أصغر منك لأني ولدك، فقد اطلعت من العلم من الله تعالى على ما لم تعلمه أنت

قال الزمخشري:
ولم يصف أباه بالجهل المفرط ولا وصف نفسه بالعلم الفائق، ولكنه قال له: إن معي طائفة من العلم وشيئاً منه ليس معك، وذلك علمُ الدلالة على الطريق السوي فلا تستنكف، وهب أني وإياك في مسير وعندي معرفة بالهداية دونك فاتبعني أنجك من أن تضل وتتيه .

فقد أبرز إبراهيم عليه السلام نفسه في صورة رفيق له، أعرف بأحوال ما سلكاه من الطريق، فاستماله برفق حيث قال له: (فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا)
أي مستقيما منجيا من الضلال المؤدي إلى مهاوي الردى والهلاك.

ثم ثبطه عما كان عليه بتصويره بصورة يستنكرها كل عاقل، ببيان أن هذا الصنم مع خلوه من النفع بالمرة مستجلب لضرر عظيم، فإنه في الحقيقة عبادة للشيطان لأن الشيطان هو الآمر به، فقال له:
(يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ ۖ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَٰنِ عَصِيًّا)
فإن عبادتك للأصنام عبادة للشيطان، إذ هو الذي يسوِّلها لك ويغريك عليها، وهذا الشيطان الذي تعبده هو مستعصي على ربك الذي أنعم عليك بفنون النعم، ولا ريب أن المطيع للعاصي عاصي مثله .

ثم حذره من سوء عاقبة ما هو عليه من عبادة الشيطان، فقال له:
(يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَٰنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا)

قال الزمخشري:
ربَّع عليه بتخويفه من سوء العاقبة وبما يجره ما هو فيه من التبعة والوبال، ومع ذلك لم يخلُ ذلك من حسن الأدب فهو لم يصرح بأن العقاب لاحق له وأن العذاب لاصق به قطعاً، ولكنه قال: إني أخاف أن يمسك عذاب، فذكر الخوف والمس ، ونكر العذاب، وجعل ولاية الشيطان ودخوله في جملة أشياعه وأوليائه أخطر من العذاب، وذلك بقوله: فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا ، أي قريبا له في اللعن المخلد.

ولما أطلع سيدنا إبراهيم أباه على خطأ ما هو فيه وهدم بالحجج القاطعة هذه العقيدة الفاسدة وناصحه المناصحة العجيبة مع تلك الملاطفات، أقبل عليه أبوه بفظاظة الكفر وغلظة العناد، فقال له: (أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِي يَإِبْرَاهِيمُ) ، لم يقابله بيا بني مقابل يا أبت، ثم قال: (لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا)

أول كلمة قالها والد إبراهيم لولده: لَأَرْجُمَنَّكَ ، وكان من المتوقع مقابل هذا الكلام اللطيف الحسن أن يعتذر عن الاستجابة له ، ويطلب منه ألا يسترسل في نصحه له ، بل قال له: لَأَرْجُمَنَّكَ .
وهذا ما قاله قوم نوح لسيدنا نوح عليه السلام:
(قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ)
وكما قال أصحاب القرية لرسلهم:
(قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ)
وكما قال فرعون للسحرة الذين آمنوا:
(لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلَافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ)

ومع كل هذا التهديد من والد إبراهيم لولده إبراهيم بالرجم ، قال له إبراهيم :
(سَلَامٌ عَلَيْكَ) ، أي ستسلم مني، ستسلم من خطابي من سيئ القول وسيئ الفعل
ومن كل مكروه .
ثم قال له : (سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي)، يعني : لا أزال أدعو لك بالهداية والمغفرة وأن يهديك الله للإسلام الذي تحصل به المغفرة،
لقد قابل إبراهيم السيئة بالحسنة، وهذا دأب الصالحين، الذين قال الله تعالى عنهم:
(وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا)

قال ابن كثير:
قد استغفر إبراهيم لأبيه مدة طويلة وبعد أن هاجر إلى الشام وبنى المسجد الحرام، وبعد أن ولد له اسماعيل واسحاق في قوله في سورة إبراهيم :
(رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ)

ثم لما بين الله تعالى له أنه بقي عدواً لله، أقلع عن ذلك ورجع، قال تعالى:
(وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ)

جامع اﻹيمان الشيخ محمد نعيم عرقسوسي

04 Oct, 09:48


وما قص الله تعالى علينا قصة سيدنا إبراهيم وحواره مع أبيه إلا لنقتدي ولنتأسَّى به كيف ندعو إلى الله سبحانه وتعالى، فقد قال تعالى:
(قدْ كَانَت لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ في إبراهيم)
وأكد ذلك فقال:
(لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخر)

ونتابع الموضوع في الأسبوع القادم إن شاء الله تعالى.

اللهم ثبتنا على دين نبيك محمد ﷺ ، يارب العالمين.

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

و الحمد لله رب العالمين.

جامع اﻹيمان الشيخ محمد نعيم عرقسوسي

04 Oct, 09:48


جلسة الصفا

24 ربيع الأول 1446
27 أيلول 2024

لفضيلة الشيخ
محمد نعيم عرقسوسي

بعنوان:
*آداب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر*

بسم الله الرحمن الرحيم

تحدثنا في الدروس الماضية عن أهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأثره العظيم في سلامة الأمة والمجتمع من الآفات والطامات والشذوذات، فكما تسعى وزارة الصحة والأطباء إلى مقاومة الأمراض والأوباء التي تصيب الأبدان، أوجب الله تعالى مقاومة الرذائل والقبائح والفواحش التي تصيب الأخلاق وتسبب تردي المجتمع وانهيار القيم وانحسار الفضائل.

والسؤال:
كيف ينبغي أن يكون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وما هي الطريقة الشرعية المثلى للقيام بهذا الواجب.؟

قد يسبق إلى الذهن ، بسبب ممارسات سابقة، أن يكون ذلك بالشدة والقسوة والتوبيخ والتقريع أو السبِّ والشتم ونحو ذلك، وهذا كله عين الخطأ وعين الجهل بالطريقة التي شرعها الله تعالى ورسخها سيدنا محمد ﷺ.

فالذي شرعه الله تعالى وأكده النبي ﷺ ومارسه الأنبياء والمرسلون والدعاة إلى الله تعالى، هو أن النهي عن المنكر والأمر بالمعروف يجب أن يكون بالرفق واللطف واللين

وقد بيَّن الله تعالى المنهج القويم في ذلك في قوله تعالى:
(ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)

وحين أرسل الله تعالى سيِّدينا موسى وهارون إلى فرعون ليدعواه إلى الله تعالى، وليدع ما كان عليه من ظلم وطغيان وصل فيه إلى حد أن قال: ( أَنَا رَبُّكُمُ الأعْلَى)، وقال: ( مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَٰهٍ غَيْرِي) ومع هذا، قال الله تعالى لموسى وهارون:
(اذْهَبَا إِلَىٰ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَىٰ (43) فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَىٰ )

قال الحافظ ابن كثير:
هذه الآية فيها عبرة عظيمة، وهو أن فرعون وهو في غاية العتو والاستكبار ،وموسى صفوة الله من خلقه إذ ذاك، ومع هذا أُمر ألا يخاطب فرعون إلا بالملاطفة واللين، كما قال يزيد الرقاشي عندما قرأ قوله تعالى: (فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا) :
يامن يتحبب إلى من يعاديه فكيف بمن يتولاه ويناديه.

وقال الطاهر ابن عاشور:
واللين من شعار الدعوة إلى الحق، قال تعالى: (وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)، وقال: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ)
ومن اللين في دعوة موسى لفرعون قوله تعالى: (فَقُلْ هَل لَّكَ إِلَىٰ أَن تَزَكَّىٰ وَأَهْدِيَكَ إِلَىٰ رَبِّكَ فَتَخْشَىٰ)
وقوله:
(وَالسَّلَامُ عَلَىٰ مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَىٰ)
إذ المقصود من دعوة الرسل حصول الاهتداء لا إظهار العظمة وغلظة القول بدون جدوى.

وقال الألوسي:
وفي الآية دليل على استحباب إلانة القول للظالم عند وعظه.

وهذا الرفق واللين في الدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو الذي انتهجه سيدنا إبراهيم عليه السلام في دعوته لأبيه ونهيه عن عبادة الأوثان، فخاطب أباه بأرق العبارات وألطف الكلمات مع أن أباه عابد وثن، ونقل الله تعالى لنا خطاب سيدنا إبراهيم لأبيه، لأن فيه بيان المنهج الصحيح في الدعوة إلى الله تعالى والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

قال الزمخشري:
حين أراد إبراهيم أن ينصح أباه ويعظه فيما كان متورطا فيه من الخطأ العظيم والارتكاب الشنيع، رتب الكلام معه في أحسن اتساق، وساقه أرشق مساق مع استعمال المجاملة واللطف والرفق واللين والأدب الجميل والخلق الحسن، منتصحا في ذلك بنصيحة ربه عز وجل إذ أوحى إليه: يا إبراهيم إنك خليلي حسِّن خلقك ولو مع الكفار، تدخل مداخل الأبرار.
ولنصغ إلى خطاب سيدنا إبراهيم أباه، لنتلمس ما فيه من رفق ولين ، ولنتعرف إلى هذا التدرج المنطقي في الخطاب، والتسلسل الرائع في الأفكار ، والأسلوب الحكيم في الدعوة إلى الله عز وجل :

قال الله تعالى:
(وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَّبِيًّا * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنكَ شَيْئًا)

افتتح سيدنا إبراهيم عليه السلام خطابه أباه بندائه مع أنه حاضر أمامه، لاستحضار سمعه وذهنه لتلقي ما سيلقيه إليه، وخاطبه بهذه الكلمة الرقيقة، (يا أبت) لم يقل: يا أبي، فلفظ أبت فيه تحبب وتودد وتلطف، وسأله هذا السؤال ليحمله على التفكير بحقيقة ما يعبده، لم يبدأ خطابه بالتوبيخ والتشنيع على رأيه واعتقاده، وإنما سأله عن سبب عبادته وعمله لينتبه هو إلى خطئه عندما يتأمل في عمله، فحينئذ يفطن بفساد اعتقاده .

وابتدأ سيدنا إبراهيم بالحجة الراجعة إلى الحس، إذ قال له: (لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ)، أي لا يسمع ثناءك عليه عند عبادتك له، ولا يسمع دعاءك ولا جؤارك، ولا يبصر خشوعك ولا خضوعك أمامه، فهذه حجة محسوسة .
ثم أتبعها بقوله: (وَلَا يُغْنِي عَنكَ شَيْئًا)، أي لا يستطيع أن يجلب لك نفعاً ولا أن يدفع عنك ضراً.

جامع اﻹيمان الشيخ محمد نعيم عرقسوسي

23 Sep, 11:30


و روى الإمام أحمد والترمذي من حديث حذيفة بن اليمان رضي الله تعالى عنه أن النبي ﷺ قال:
والذي نفسي بيده لتأمُرُنَّ بالمعروف ولتَنْهَوُنَّ عن المنكر أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقابا من عنده، ثم لتَدْعُنَّه فلا يستجيب لكم .
وقد يُقعد الناس عن القيام بهذا الواجب العظيم فهمٌ خاطئ للآية القرآنية التي يقول الله تعالى فيها: (يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ عَلَيۡكُمۡ أَنفُسَكُمۡۖ لَا يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا ٱهۡتَدَيۡتُمۡۚ)، ويظنون أن معنى تلك الآية أنه لا علاقة لك بغيرك ولا يهمك أمره إنما عليك بنفسك فقط ولا عليك بما يفعله غيرك

وقد تسلل هذا الفهم الخاطئ إلى بعض التابعين، فقام أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه يبين المعنى الصحيح للآية ويصحح ما أخطأ الناس في فهمه، فقرأ سيدنا أبو بكر هذه الآية ثم قال:
إن الناس يضعون هذه الآية على غير موضعها، وإني سمعت رسول الله ﷺ يقول: إذا سمعوا المنكر فلم يغيِّروه أوشك أن يعمُّهم العقاب.
وأي عقاب أشد من أن تعم الرذائل وتفشو القبائح والفواحش في المجتمع حتى تصل إلى شبابنا وبناتنا، وتغزونا في عقر دورنا، فلا نستطيع أن ننهى أولادنا ولا أن ننصحهم لأنهم تأثرواً تأثراً شديداً بما يرَّوج له أصحاب المبادئ الهدامة، وبما يزينه لهم أصحاب الشهوات الماكرون، وبما يروج له أصحاب المسلسلات والمنصات الاجتماعية الفاجرة.
لذلك أوجب النبي ﷺ على كل مسلم أن يكون حارساً لهذه الشريعة، حارساً لآدابها وقيمها وثوابتها وأخلاقها.
فروى الإمام أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي والطيالسي وابن منده في "الإيمان" والبيهقي في "السنن الكبرى" وابن عبد البر وغيرهم من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول:
من رأى منكم منكراً فاستطاع أن يُغيِّره بيده فليفعل، فإن لم يستطع بيده فبلسانه، فإن لم يستطع بلسانه فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان.
و في هذا الحديث تصنيف للذين ينهون عن المنكر :
فالذي يُغيِّر بيده هو صاحب السلطة، يغيره بقرار منه وبتوقيع منه يُغلق به أماكن الفجور والخنا وأوكار الرذيلة والدعارة.
يُغيره رب العمل في معمله
والمسؤول في دائرته
وربُّ البيت في بيته
وهكذا كل من له سلطة على غيره فهو الذي يغير المنكر بيده، هكذا جاء لفظ الحديث: من رأى منكم منكراً فاستطاع أن يغيره بيده فليفعل، وهو صاحب السلطة .
وقد روي عن سيدنا عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه أنه قال : إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن .
ومعناه: يمنع بالسلطان من اقتراف المحارم أكثر مما يمنع بالقرآن، لأن ضعيف الإيمان لا تؤثر فيه زواجر القرآن ومناهي القرآن، بل يقدم على المحرمات ولا يبالي، لكن متى علم أن هناك عقوبة من السلطان ارتدع خوفاً من العقوبة السلطانية.
والذي يُغيِّر بلسانه هو العالم العارف الذي يستطيع أن يبين أخطار المنكرات ولديه قدرة على إقناع الناس بما للمنكرات من نتائج وخيمة وعواقب سيئة :
فالطبيب يبين للناس مخاطر شرب الخمر وتعاطي الدخان والأركيلة والمخدرات، ويُبرز لهم بالصور مفاسدها وأضرارها، ويُحذر الناس من الوقوع في الزنا، ويُبيِّن لهم الآثار الخطيرة للفواحش والعلاقات الجنسية غير المشروعة.
والمدرس يشرح لطلابه عواقب الكسل والانصراف عن الدراسة والانشغال عنها بترهات الأمور وتوافه الأشياء من الألعاب السيئة والملهيات الخبيثة، ويبين لهم خطر الاختلاط بين الشباب والفتيات، وما يورثه من تهييج الغرائز والتثبيط عن التفوق والنجاح، ويحذرهم من شرب الدخان الذي ينتشر اليوم بين الشباب والأطفال، نعم هذا من واجبات المدرسين والمعلمين، لأن موقعهم يؤهلهم للنهوض بالطلاب إلى معالي الأمور وأعلى الدرجات ليكونوا بناة لبلادهم ومن أسباب نهضتها ورُقيِّها.
والعالم يبين للناس خاصة ولأصحاب الأعمال والصناعات والتجارات خاصة مخاطر الجشع والطمع وحرمة أكل أموال الناس بالباطل وخطر الغش، وخطر المال الحرام بشكل عام، وفظاعة الظلم في توزيع التركات، وغير ذلك من المفاسد والمنكرات الاجتماعية التي تعرفونها.

والعامي الذي لا سلطة في يديه ولا علم لديه يجب عليه أن يشمئزَّ من المنكرات والرذائل وينكرها بقلبه، وألا يألفها مهما روَّجوا لها، ومهما حاولوا أن يظهروها على أنها أمر عادي، فإنكاره لها بقلبه ونفوره عنها هو من النهي عن المنكر ويكتب له ذلك عند الله تعالى.
فقد روى أبو داود والطبراني عن العُرس بن عَمِيرة رضي الله تعالى عنه، عن النبي ﷺ قال:
إذا عُملت الخطيئة في الأرض كان من شهدها فكرهها وأنكرها كمن غاب عنها، ومن غاب عنها فرضيها كان كمن شهدها.
قال الحافظ ابن رجب:
فمن شهد الخطيئة فكرهها في قلبه كان كمن لم يشهدها إذا عجز عن إنكارها بلسانه ويده، ومن غاب عنها فرضيها، كان كمن شهدها وقدر على إنكارها فلم ينكرها، لأن الرضا بالخطايا من أقبح المحرمات، ويفوت به إنكار الخطيئة بالقلب، وهو فرض على كل مسلم لا يسقط عن أحد في حال من الأحوال.

جامع اﻹيمان الشيخ محمد نعيم عرقسوسي

23 Sep, 11:30


جلسة الصفا

17 ربيع الأول 1446
20 أيلول 2024

لفضيلة الشيخ
محمد نعيم عرقسوسي

بعنوان:
خطر ترك النهي عن المنكر.
بسم الله الرحمن الرحيم

تبين لنا خطر شيوع المنكرات على الأمة والمجتمع وأثرها في هدم الأخلاق والقيم ، وتردِّي المجتمع في الرذائل والقبائح، مما يوجب على كل مسلم يغار على دينه ويحب الخير لبلده والرفعة لأمته، أن ينهض لردع هذه المنكرات ومنع وقوعها لتسلم الأمة من الأوبئة الأخلاقية التي هي أخطر من الأوبئة البدنية .
وما كانت خيرية الأمة إلا لقيامها بهذا الواجب الذي هو واجب كل مسلم كل حسب موقعه ومعرفته، كما سنذكر قريباً .
وقد بين الله تعالى سبب هذه الخيرية في قوله:
(كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ)
فإذا أردت أن تنالك هذه الخيرية فعليك أن تقوم بهذا الواجب العظيم.
وفي المقابل: من تخلى عن القيام بهذا الواجب وفي ذهنه أن الأمر لا يعنيه، فليست الخطورة في أنه يخسر هذه الخيرية فقط ، فهذا يبقى أمرا سهلاً أمام خطورةٍ ومصيبةِ ذكرها الله تعالى في قوله:
(لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَىٰ لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ)
وذكر الله تعالى سبباً من أسباب إصابتهم بهذه اللعنة، فقال:
(كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ)
قال الحافظ ابن كثير : اي كانوا لا ينهى أحد منهم أحداً عن ارتكاب المآثم والمحارم، ثم ذمَّهم الله تعالى على ذلك ليحذر أن يُرتكب مثلُ الذي ارتكبوا، فقال تعالى: (لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ).
وفرق كبير جداً بين الخيرية وبين اللعنة.
والسؤال:
لماذا تصيب اللعنة الذين لا يتناهون عن المنكر مع أنهم لا يفعلون المنكر ؟
والجواب :
لأنهم لم ينهواعن الأعمال المنكرات التي تصيب اللعنة أصحابها، أو رضوا بها، فانجرَّت اللعنة إليهم.
وقد ذكر النبي ﷺ هذه المنكرات التي يُلعن فاعلوها ، فتنجر اللعنة إلى من لا ينكرها :
فمن ذلك قوله ﷺ:
لعن رسول الله ﷺ آكل الربا ومؤكله وكاتبه وشاهديه، وقال: هم سواء.
وقولُه:
لعن رسول الله ﷺ الراشي والمرتشي في الحكم والرائش بينهما.
وقوله:
لعن رسول الله ﷺ شارب الخمر وساقيها وعاصرها ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه وبائعها ومشتريها وآكل ثمنها.
وقوله ﷺ:
لعن الله المتشبهين من الرجال بالنساء والمتشبهات من النساء بالرجال.
وقوله:
لعن رسول الله ﷺ الرجل يلبس لبسة المرأة، والمرأة تلبس لبسة الرجل.
وقوله ﷺ:
لعن الله من عمل عمل قوم لوط، لعن الله من عمل عمل قوم لوط ، لعن الله من عمل عمل قوم لوط . قالها ثلاث مرات.
وقوله ﷺ:
لعن الله من سرق منار الأرض ، او قال : من غير تخوم الأرض(أي لسرقة حقوق الناس).
وقوله ﷺ:
لعن الله من عقَّ والديه.
إلى غير ذلك من الأعمال التي لعن الله تعالى ورسوله ﷺ من يعملونها، وكلها للأسف واقع في عالم المسلمين اليوم.
والذين تصيبهم اللعنة يصيبهم الذل والصغار وتسلط الاعداء .
وذكر النبي ﷺ كيف يتراخى الناس ويتهاونون في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حتى يصيبهم ما يصيبهم :
فروى الإمام أبو داود والترمذي وابن ماجه عن عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله ﷺ:
إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل، كان الرجل يلقى الرجل فيقول له: يا هذا، اتق الله ودع ما تصنع فإنه لا يحلُّ لك، ثم يلقاه من الغد فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده، فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض، ثم قال:
لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَىٰ لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ۚ كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ
. و روى الإمام أحمد عن ابن مسعود كذلك أن رسول الله ﷺ قال:
لما وقعت بنو إسرائيل في المعاصي نَهَتْهُم علماؤهم فلم ينتهوا، فجالسوهم في مجالسهم وأسواقهم وواكلوهم وشاربوهم، فضرب الله قلوب بعضهم ببعض، ولعنهم على لسان داود وعيسى ابن مريم . وكان رسول الله ﷺ متكئاً فجلس، فقال: لا و الذي نفسي بيده، حتى تأطروهم على الحق أطراً.
ويعني ذلك: أنه لا يكفي أن تنهى أحداً باللسان، بل يجب أن يكون نهيك عن المنكر موقفاً في حياتك، فترك مشاركتك لصاحب المنكر هو نهي عملي عن المنكر، كأن دُعيت إلى سهرة فيها مشاهدة ما لا يجوز مشاهدته، أو فيها استهزاء بالدين وأهل الدين، أو فيها غيبة ونميمة وخوض في أعراض الناس، أو دُعيت إلى عرس فيه اختلاط ، إلى غير ذلك مما لا يرضاه الله تعالى، فمن نهيك عن المنكر ألا تستجيب لهذه الدعوات، وتعلن من خلال موقفك أنك لا ترضى هذا الأمر الذي لا يرضاه الله تعالى.

جامع اﻹيمان الشيخ محمد نعيم عرقسوسي

23 Sep, 11:30


فتبيَّن بهذا أن الإنكار بالقلب فرض على كل مسلم في كل حال، وأما الإنكار باليد واللسان فبحسب القدرة.

وسنتكلم فيما يأتي إن شاء الله تعالى عن آداب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وضوابطه وأصوله.

اللهم ثبتنا على دين نبيك محمد ﷺ ، يارب العالمين.

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

و الحمد لله رب العالمين.

جامع اﻹيمان الشيخ محمد نعيم عرقسوسي

22 Sep, 20:02


كل هذا من ثمار التحابب بين المسلمين

4,351

subscribers

321

photos

84

videos