10 رجب 1446
10 كانون الثاني 2025
لفضيلة الشيخ
محمد نعيم عرقسوسي
بعنوان:
الشيخ سارية الرفاعي
الرجل الذي افتقدناه
بسم الله الرحمن الرحيم
خسرنا في هذا الأسبوع قامة كبيرة في العلم والعمل والدعوة والتربية وأعمال الخير المتنوعة، ترك آثاراً عظيمة طيبة في هذه المجالات كلها، ألا وهو فضيلة الشيخ سارية الرفاعي رحمه الله تعالى.
والذي ينبغي أن نعرفه، لنُرَبِّي أولادنا وشبابنا على مثاله ليكونوا بنائين للبلاد نافعين للعباد، هو أن نعلم كيف نشأ هذا الرجل وكيف صنع هذا الصنع ورُبِّيَ هذه التربية العالية حتى كان منه ما كان.
ولد الشيخ سارية الرفاعي سنة 1948م لأسرة علمية مرموقة، وهو ابن الشيخ الكبير العلامة عبد الكريم الرفاعي صاحب النهضات العلمية والنشاطات الدعوية في جامع زيد بن ثابت الذي امتد أثره إلى عديد من المساجد في دمشق وريف دمشق، والذي سنفرد له ترجمة وافية بإذن الله تعالى.
نشأ الشيخ سارية في كنف والده وتحت رعايته وبتوجيهاته وإرشاداته، وأخذ عنه العلوم الشرعية والعربية وعن كبار تلاميذه في مسجد زيد بن ثابت، ثم انتسب إلى معهد الجمعية الغراء في مراحله الدراسية كلها، ودخل الثانوية الشرعية التابعة لها، فتتلمذ على كبار العلماء فيها إلى أن نال الشهادة الثانوية منها عام 1966 م.
وكان من شيوخه في هذا المعهد كبار العلماء الذين أثروا علومه ومعارفه في شتى فنون العلم، منهم الشيخ محمد كريم راجح في مادة التفسير، والشيخ عبد الرزاق الحمصي في مادة الفقه الشافعي والشيخ نايف العباس في مادتي التاريخ والسيرة النبوية، والشيخ خالد الراوي في مادة اللغة العربية، والشيخ سعيد الطنطاوي، شقيق الشيخ علي الطنطاوي، في مواد الكيمياء والفيزياء والإعلام، والشيخ محمد صالح فرفور في مادتي البلاغة والخطابة، وقرأ كذلك على مفتي سورية آنئذٍ الشيخ الطبيب أبي اليسر عابدين الفقه الحنفي، ومغني اللبيب في النحو.
كما أدرك طبقة عالية من علماء الشام وجالسهم، كالشيخ أبي الخير الميداني والشيخ إبراهيم الغلاييني والسيد مكي الكتاني والشيخ حسن حبنكة والشيخ عبد الوهاب الحافظ المعروف بدبس وزيت وغيرهم.
وهذا يُشير إلى أنك إذا أردت أن يكون ولدك كبيراً في العلم والمعرفة أو كبيراً في الصناعة أو في أي مجال من مجالات الحياة، فينبغي أن تضعه منذ نعومة أظفاره عند الكبار في العلم والتربية والصناعة، لأن الكبير ينتج كبيراً، ولأن العظيم ينتج عظيماً، ولأن البطل ينتج بطلاً، أما الذين هم محدودو المعرفة قليلو الخبرة، فإنهم لا يمكنهم صنع رجال كبار لأن فاقد الشيء لا يعطيه، وفي التاريخ شواهد كثيرة على ذلك.
وأعظم الأمثلة على الإطلاق هو سيدنا محمد ﷺ الذي تناهت إليه العظمة البشرية، فقد ربى أعظم رجال في التاريخ وهم صحابته الكرام رضوان الله تعالى عليهم، والذين كل واحد منهم هو أمة وحده، والذين قادوا الإنسانية إلى ذروة عزها ومجدها وحضارتها.
ولم يكتف الشيخ سارية بما حصَّله من هؤلاء العلماء الكبار، فقد كان نهمه إلى العلم يدفعه إلى أن ينهل المزيد منه، فسافر عام 1966 إلى مصر، والتحق بالأزهر الشريف وتخرج في كلية أصول الدين عام 1971م، ثم حصل على درجة الماجستير في التفسير عام 1977م، وقد تتلمذ في الأزهر على كبار علمائه المشهود لهم بالأستاذية والتمكن في العلم مثل الشيخ عبد الحليم محمود شيخ الأزهر الذي كان عميداً لكلية أصول الدين والشيخ عبد الغني عبد الخالق وغيرهم.
وكان قد تسلَّم وظيفة الإمامة والخطابة في مسجد زيد بن ثابت بعد وفاة والده الشيخ عبد الكريم الرفاعي عام 1973م.
كما تم تعيينه مدرساً في دائرة الإفتاء العام منذ عام 1973.
وكان في عام 1965 قد أرسله والده الشيخ عبد الكريم بطلب من الشيخ بشير الشلاح رحمه الله تعالى، الذي كان رئيس لجنة بناء جامع القصور، أرسله إلى جامع القصور في منطقة التجارة ليكون إماماً فيه، فأسَّس في الجامع بالإضافة إلى إمامته عملاً دعوياً مباركاً، وأنشأ حلقات علمية من الشباب مع ثلَّة من إخوانه ولم يتجاوز السابعة عشرة من عمره.
إن نشوءه في كنف والده الداعية المربي، جعل حب الدعوة يسري في دمه، وصارت هدفاً من أهدافه ومن طموحاته و أمنياته.
ولما رجع إلى جامع زيد عقب وفاة والده تابع كذلك نشاط والده في التعليم والتربية والدعوة فتوسعت لديه الحلقات العلمية، وازداد إقبال الشباب على المسجد وأخذ يضمهم إلى حلقات العلم في الفقه وأصوله والعقيدة والتفسير والحديث واللغة العربية وغيرها، وكان يضع كل طالب فيما يناسبه من المستوى العلمي، فثمة حلقات للعمال، وأخرى لطلاب المدارس، وغيرها للجامعيين، وهكذا، بالإضافة إلى الدرس العام الذي خلَف فيه أباه والذي كان يوم الثلاثاء بين المغرب والعشاء.