لديّ قناعة، تترسّخ مع مرور الوقت، بأنّ تلك الأصوات التي تعلو في كلّ فرصة بدحض «الــ مُ قاومـة» لأنّها إسلاميّة وفاشيّة لا توجّه هذه التّهم لأنّها تريد نموذجًا علمانيًا للاشتباك، بل دحضها هو تعبيرٌ ضمنيّ عن رغبة أشدّ عمقًا تتمثّل في عدم الــ م قاومِـة أصلًا، ولا مشكلة لديها مع الاحـ تلال في أفضل الأحوال، بل هي مقتنعة قناعةً أيديولوجيّة بأنّه ديمقراطيّ وحضاريّ وله حقّ وشرعيّة سياسيّة في هذا الاستيطان الكولونياليّ.
إنّ كلّ ما يقولونه عن «الأساس الاجتماعيّ» للمُ ـقاومة هو خطاب «فوقيّ» ساحر يوحي بأنّهم، لا سمح الله، يريدون مُقاو مـ ـةذات طابع اجتماعيّ، وبالتالي ديمقراطيّة. وفي حال كانت ديمقراطيّة (كما هو الحال مثلًا)، فإنّهم سرعان ما يلجأون إلى مبرّرات أشدّ إنسانويّة من الخطاب الحقوقيّ الذي يتظاهرون بنقده (وهم عَبَدة نظريًّا وماديًا له) بأنّ «الكلفة البشريّة» هي ضحيّة الم ـ قاومة، وليس ضحيّة إسـ رائــ يــل. وربّما هذه هي المرّة الأولى التي نرى أنّ الضحيّة هي ضحيّة الضحيّة، لا ضحيّة المستعمرة الطارئة جغرافيًّا وزمانيًّا وسياسيًا على الأرض التي استُعمرت ودُمِّرت وقُتّل أبناؤها بكلّ سبيل ممكنة.
إنّ هذا لا يعني أنّنا نقدّم شيكًا على البياض للـ«مُــ قاومـ ـة»، وأنّها لا تحتاج إلى نقد. بل يمكننا القول إنّها لا تستقيمُ أصلًا بدون نقدٍ، ونقد جذريّ. والآن سيقولون أنتم تقولون هذا كتبييض سياسيّ، باعتبار أنّه لا صوت يعلو فوق صوت المعركة. وهذه ترّهاتٌ طبعًا، وهي غطاء أيديولوجيّ يستعملونه لأنّهم ببساطة ليسوا بحاجة إلى هذا «النقد»، فهذا النقد بالنسبة إليهم نوعٌ من التدجين. إنّهم، يا سادة، لا يريدون «مُـ ـقاومـ ـة» بأيّ شكل كامل، وهم لا يخفون أنّهم في طرف الأقوى دائمًا، ويدافعون عن سياسات كولونياليّة سواء من المستعمرة أو من السلطة الموالية له في الضفّة.
كان النّضال الفــ لــسـ طـيـ ـنيّ دائمًا متنوّعًا بالأساس، ومَن يقرأ التاريخ (هم يقرأونه جيدًا لكنّهم يأتون بالإفك عن دراية) يدركُ أنّ النضالات ضدّ المستعمَرة الإسـ ـرائـ يـ ـليَّة كانت وستزالُ تضمّ كافّة التنوّع البشريّ للأرض، لأنّ فـ ـلـ سـ طـ ـيـن ببساطة هي مركز القضايا بالنسبة إلى التحرّر البشريّ في المنطقة، وقضيّة عالميّة لليسار وكلّ «أحرار العالَم» الذين ناشدتهم بالمناسبة الـ مُـ ـقاو مـ ـة منذ بدء الطوفان.
ببساطة، هم لا يقترحون صيغة للنضال. لا يعجبكم نضال الأنفاق، أو لا تجدون في «الٍسنوار» القائد «السيكسيّ» الذي تستمنون عليه، وتريدون نضالًا «أبيض» لا تشوبه تلطّخات الشرق الأوسط بكلّ وسخها وجمالها، فإليكم المجال أيها الجهابزة، اقترحوا علينا كيف يمكن أن نقضي على هذه المستعمرة الاستيطانيّة التي لا يختلف عاقلان على وجه البسيطة أنّها الأعتى والأغشم والأشدّ فتكًا؟
لكنّهم لا يقترحون ولن. واستخدامهم لآلام الضحايا (التي لا يمكن اعتبارها بحال ثانويّة، أو هامشيّة) هو تضليل وتبييض لصحائف أفعالهم الـ صـ هـ يـونـ يـّة ببساطة.
إنّ التاريخ لا يمضي على أهوائنا. وإلّا، فالمظلومون كانوا انتصروا منذ القدم. التاريخ مخادع، وماكر، وهو ملطّخ بالتناقضات، ومَن يريد تاريخًا أبيض من التناقضات، فليلزم بيته ببساطة، ويصنع تاريخه على ما يحبّ، ولن يحاسبه أحد. أمّا إذا أردت اشتباكًا بالتاريخ، فعليك أن تفهم أنّ الدرس الأوّل للتاريخ أنّ «الحقّ» لعبة الأقوياء، وأنّ النضال ضدّ الأقوياء هو مثل طبقات الأرض التي تتكون بالتمزّقات والانفجارات التي لا بدّ لها في نهاية المطاف أن تكوّن «طبقة» جديدة يمكن على أساسها العيش بلا استيطان من استعمارٌ هو الأعتى تاريخيًّا.
- كريم محمد -