بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدُ لله ربِّ العالمين.. والصلاةُ والسلامُ على سيِّدِنا محمَّدٍ، وعلى آله وصحبهِ أجمعين.
أما بعد: ففي ظلِّ انتشارِ وسائلِ التواصلِ والأجهزةِ الحديثةِ قد يقعُ الناسُ عن قصدٍ أو دونَ قصدٍ في أفعالٍ تضرُّ بغيرهم، وتُعتبرُ انتهاكاً واعتداءً على حرمة الحياة الخاصة للآخرين.
ومن أمثلة ذلك: تسجيلُ محادثةٍ جرتْ في مكانٍ خاصٍّ أو مكانٍ عامٍّ، أو مكالمةٍ عن طريقِ الهاتفِ أو أيِّ جهاز آخر.. ويدخل في ذلك تسجيلُ الحواراتِ الشخصيةِ والسهراتِ العاديَّة.
وكلُّ ذلك إذا كان بدون علم المتكلِّم فهو حرامٌ شرعاً، وفيه تعدٍّ وخيانةٌ، لا سيما إذا أخبر صاحبَه أو الحاضرينَ بأنَّ هذا سرٌّ بينهم، سواءٌ بصريح العبارة أو بالإشارة.. روى ابن أبي شيبة رحمه الله تعالى، عن الحسن رضي الله تعالى عنه قال: إذا حدَّثَ الرجلُ الرجلَ بحديث وقال: اكتم عليَّ، فهي أمانةٌ.
ومما يتناولُ هذه القضيَّةَ بصفةٍ عامَّةٍ قولُ النبيِّ صلَّى اللهُ عليْهِ وسلَّمَ: (إِذَا حَدَّثَ الرَّجُلُ الْحَدِيثَ ثُمَّ الْتَفَتَ فَهِيَ أَمَانَةٌ) رواه الإمام الترمذي وقال: حديث حسن.
وإذا كان المنقولُ ممَّا يُفسِدُ ذاتَ البَيْنِ، فإسماعُهُ للغيرِ ـ مع حُرمَةِ الإفشاءِ ـ يدخلُ في النميمةِ المحرَّمةِ، فيكونُ إثماً على إثم.
وكذا لا يجوزُ تسجيلُ الدروسِ العلميةِ لأحدٍ إلا بإذنه ورضاهُ، فإن عُرِفَ عنه الإذن بذلك فلا حرج.. وإذا كان المتكلِّمُ امرأةً وأذِنَتْ بالتسجيلِ فلا يجوزُ إسماعُهُ لرجلٍ أجنبيٍّ عنها.
ومثل هذا أيضاً التسجيلُ للآخرين في المجالس والسهرات ـ وكذا التصوير ـ بدون علمهم ورضاهم، وقد فشا هذا كثيراً بينَ الناسِ بسبب رِقَّةِ الدين.. ومما يُؤسفُ له أنَّ الكثيرَ من المنسوبينَ للتديُّنِ وعليهم سيماهُ الظاهرةُ يقومون بذلك، فتجدُهم يختلسونَ الصورَ ويسجِّلونَ بطريقةٍ مُريبةٍ تدلُّ على أنَّهم يستشعرون بأنَّهم يمارسون تصرُّفاتٍ مخالفةً للشرعِ الشريفِ والخُلُقِ المُنيفِ ومنافيةً للمُروءةِ.
وروى الإمامُ أحمدُ وأبو داود في سننه عن سيِّدِنا جابرِ بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله صلَّى اللهُ عليْهِ وسلَّمَ: (الْمَجَالِسُ بِالْأَمَانَةِ إِلَّا ثَلَاثَةَ مَجَالِسَ: مَجْلِسٌ يُسْفَكُ فِيهِ دَمٌ حَرَامٌ، وَمَجْلِسٌ يُسْتَحَلُّ فِيهِ فَرْجٌ حَرَامٌ، وَمَجْلِسٌ يُسْتَحَلُّ فِيهِ مَالٌ مِنْ غَيْرِ حَقٍّ).
أي: إنَّ المجالسَ الحسنةَ إنَّما هي المصحوبةُ بالأمانةِ، أي: كتمانِ ما يقعُ فيها من التفاوضِ في الأسرار، فلا يحلُّ لأحدٍ من أهل المجلس أن يُفشيَ على صاحبه ما يُكرَهُ إفشاؤه؛ إلا فيما يَحرمُ سَترُه من انتهاكٍ لحرُماتِ الدين وإضرارٍ بالمسلمين، فلا يجوز السترُ في مثل هذه الأحوال، وهذا يدخل في الأحوال الخاصة التي يجوزُ فيها التَّتبُّعُ لأحوال الناس حرصاً على الأمَّة، وهذا له أحكامُهُ وضوابطُهُ الخاصَّةُ، وقد بيَّنَها العلماءُ في مواطنها.
إذاً من الأمانة ألا تُسجَّلَ مكالمةُ إنسانٍ يُعلَمُ مِنْ حالِهِ أنه يَكرهُ ذلك ولا يَأذنُ فيه، ولا سيما إذا كان فيها إلحاقُ ضررٍ بأحدٍ أو هتكُ سَترِهِ، لما قد يترتَّبُ على هذا التسجيلِ من المفاسد؛ فقد ينسى المسجِّلُ حذفَ تلكَ المكالماتِ، وقد تقعُ في يدِ شخصٍ لا يحبُّ صاحبُ الصوتِ أن يسمعَها، وقد تشتملُ على بعضِ الأسرارِ التي لا يُحبُّ المتحدِّثُ إفشاءَها وانتشارَها..
وكذا ينبغي التنبُّهُ لما يقعُ به البعضُ من فتحِ مكبِّرِ الصوتِ بحضورِ بعضِ الناس، أثناءَ حديثِهِ مع إنسانٍ آخر دونَ علمِهِ، فإنه ربَّما وقعَتْ بعضُ هذه المحاذير.
عنِ ابنِ عمرَ رضي الله عنهما قال: صَعِدَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمِنْبَرَ فَنَادَى بِصَوْتٍ رَفِيعٍ فَقَالَ: (يَا مَعْشَرَ مَنْ أَسْلَمَ بِلِسَانِهِ وَلَمْ يُفْضِ الْإِيمَانُ إِلَى قَلْبِهِ، لَا تُؤْذُوا الْمُسْلِمِينَ، وَلَا تُعَيِّرُوهُمْ، وَلَا تَتَّبِعُوا عَوْرَاتِهِمْ، فَإِنَّهُ مَنْ تَتَبَّعَ عَوْرَةَ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ تَتَبَّعَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ، وَمَنْ تَتَبَّعَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ يَفْضَحْهُ وَلَوْ فِي جَوْفِ رَحْلِهِ) رواه الإمام الترمذي رحمه الله تعالى.
فإذا أذِنَ المتَّصلُ بذلك إذناً صريحاً، أو عُلِمَ يقيناً أنَّه لا يَكرهُ تسجيلَ مكالمتِهِ، ولا يتأذَّى بذلك ولا يتضرَّر به، فلا حرجَ في ذلك، وإذا شكَّ في كراهتِهِ لهذا وعدمِ رضاهُ به فليسألْهُ وليستأذنْهُ، فإنْ أذنَ.. وإلا فلا.
وبناءً على ما تقدَّم يتبيَّنُ حرمةُ تسجيلِ المكالماتِ أو الحواراتِ الشخصية، أو التقاطِ صورةِ شخصٍ بأيِّ جهازٍ كان، دونَ إذنِ المسجَّلِ له، وأنَّهُ معصيةٌ تندرجُ تحتَ جريمةِ انتهاكِ حُرمةِ الحياةِ الشخصيةِ للآخرين، حتى ولو لم يتمَّ النشرُ لمحتوى المحادثةِ أوِ الحوار.
#منقول
https://t.me/towlbto