وتفاءل الصحابة، واطمأنت نفوسهم، وسكنت قلوبهم، فقد ظنوا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد عاد إلى صحته وتشافى من مرضه، ولكنهم كانوا لا يعلمون أن هذه النظرة هي النظرة الأخيرة للطلعة المحمدية، نظرة الوداع، وأنه لن يخرج من هذه الحجرة عليهم أبداً . وانطلق الصحابة بعد صلاة الفجر يتدبرون شؤونهم وقد اطمأنت نفوسهم على النبي - صلى الله عليه وسلم - .
🌴 تكملة الحلقة الأخيرة «282»🌴
🌴الجزء الثاني🌴
حتى إذا طلعت الشمس (( صبيحة يوم الإثنين )) واقتربت اللحظات الأخيرة من حياته - صلى الله عليه وسلم - ، جعل - عليه الصلاة والسلام - يُدخل يده في إناء من جلد به ماء، ويمسح بها وجهه وهو يقول : لا إله إلا الله، إن للموت سكرات، اللهم أعني على سكرات الموت . [[ هذا حال نبيّنا - صلى الله عليه وسلم - وهو يعاني سكرات الموت، فكيف بنا نحن ؟! اللهم هوّن علينا سكرات الموت ]] .
تقول السيدة عائشة : جلس - صلى الله عليه وسلم -على فراشه، ورفع رأسه فأتيته، وأسندت ظهره إلى صدري، فوضع رأسه بين سحري ونحري [[ السحر هو أول التقاء قصبات الصدر من الأعلى، والنحر هو الحلق ]]، وأشرق وجهه كأنه البدر ، فدخل عبد الرحمن بن أبي بكر [[ أي أخوها ]] ليرى النبي - عليه الصلاة و السلام - وفي يده سواك ليّن أخضر ، فظل النبي - صلى الله عليه وسلم - ينظر إلى السواك، ولا يستطيع أن يطلبه من شدة مرضه، فقالت السيدة عائشة : يا رسول اللَه، بأبي وأمي أنت، آخذ لك السواك ؟ فأشار برأسه : نعم، فأخذت السواك من عبد الرحمن، ثم ليّنته بالماء حتى طاب، ثم دفعته إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاستاك به جيداً، حتى إذا قضى رغبته منه ألقى به على صدره . تقول - رضي الله عنها - : فأخذته فتسوّكت به، فجمع الله بين ريقي وريقه في آخر يوم في حياته - صلى الله عليه وسلم - .
{{صلوا على الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم }} .
تقول عائشة - رضي الله عنها : ثمّ رفع بصره - عليه الصلاة والسلام - إلى سقف الحجرة، وهو يرفع أيضاً سبابته، وسمعته يتمتم بكلمات، فقربت أذني إليه، وأصغيت له فإذا هو يقول : مع الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، اللهم اغفر لي وارحمني، وألحقني بالرفيق الأعلى، اللهم الرفيق الأعلى، اللهم الرفيق الأعلى، اللهم الرفيق الأعلى . . .ويكررها، وفي نص الحديث تقول السيدة عائشة :
(( كانَ النبيُّ - صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ - يقولُ وهو صَحِيحٌ : إنَّه لَمْ يُقْبَضْ نَبِيٌّ حتَّى يَرَى مَقْعَدَهُ مِنَ الجَنَّةِ، ثُمَّ يُخَيَّرَ فَلَمَّا نَزَلَ به، ورَأْسُهُ علَى فَخِذِي غُشِيَ عليه، ثُمَّ أفَاقَ فأشْخَصَ بَصَرَهُ إلى سَقْفِ البَيْتِ، ثُمَّ قالَ : اللَّهُمَّ الرَّفِيقَ الأعْلَى . فَقُلتُ : إذًا لا يَخْتَارُنَا، وعَرَفْتُ أنَّه الحَديثُ الذي كانَ يُحَدِّثُنَا وهو صَحِيحٌ، قالَتْ : فَكَانَتْ آخِرَ كَلِمَةٍ تَكَلَّمَ بهَا : اللَّهُمَّ الرَّفِيقَ الأعْلَى )) . تقول السيدة عائشة : واشتدت عليه سكرات الموت، وبدأ النزع، وحشرج صدره - صلى الله عليه وسلم - ثم ارتخت يده إلى جانبه، وأخذ يثقل جسده في حجري، فظننت أنه قد أغمي عليه كما في السابق، فوضعت رأسه - صلى الله عليه وسلم - على الوسادة، وخرجت أخبر الناس أن رسول الله قد عاوده المرض . فكان أقرب الناس إليه {{ علي بن أبي طالب }}، فدخل ونظر في وجهه، ثم جهش علي بالبكاء وقال بأعلى صوته : بأبي وأمي لقد قُبض النبي، لقد قبض النبي، ولم تحمله قدماه، ثمّ ارتفعت أصوات أزواج النبي بالبكاء، وسرعان ما انتشر الخبر في أرجاء المدينة : [[ لقد مات حبيب الرحمن، مات رسول الهدى، مات الشفيق الرحيم بأمته، مات شمس الحياة وبدرها، مات سيدنا وحبيبنا وقرة أعيننا محمد - صلى الله عليه وسلم - ]]، وكان خبر وفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كالصاعقة على جميع الصحابة، فكان الصحابة في دهشة عظيمة لا يعلمها إلا الله، وهم بين مصدقٍ ومكذب للخبر ، وضجت المدينة كلها بالأصوات والبكاء .