وفي رواية ابن أبي شيبة في "المصنّف" عن عبد الله بن هبيرة: "كتب أبو الدرداء إلى سلمان: أما بعد، فإني أدعوك إلى الأرض المقدسة وأرض الجهاد. قال: فكتب إليه سلمان: أما بعد، فإنك قد كتبت إليّ تدعوني إلى الأرض المقدسة وأرض الجهاد، ولعَمري ما الأرض تُقدّس أهلها، ولكنّ المرء يقدِّسُه عملُه".
وفي رواية أبي داود في "الزهد": عن حميد بن هلال قال: "أُوخيَ بين سلمان وأبي الدرداء، فسكن أبو الدرداء بالشام، وسكن سلمان الكوفة، فكتب أبو الدرداء إلى سلمان: سلام عليك، أما بعد، فإنّ الله قد رزقني بعدك مالا وولدا، وأُنزلتُ الأرض المقدسة. قال: فكتب سلمان إليه: سلام عليك، أما بعد، فإنك كتبت إليّ أن الله رزقك بعدي مالا وولدا، وإنّ الخير ليس بكثرة المال والولد، ولكنّ الخير أن يعظُم حِلمك، وأن ينفعك علمك، وكتبتَ إليّ بأنك نزلت الأرض المقدسة، وإنّ الأرض لا تعمل لأحد، فاعمل كأنّك ترى، واعدد نفسك في الموتى".
فوائد الأثر:
- الإقامة والانتساب الجغرافيان لا يقدّمان أحدًا ولا يعطيانه فضيلة، فكيف إذا كان الانتساب للحدود الاستعمارية؟! بل العمل وموافقته للشريعة هو الذي يقدّم الإنسان أو يؤخّره. ولا ينبغي للمسلم التحسّر على أنّه يعيش بعيدًا عن أرض الملاحم في الشام، بل لعلّه يقدّم للأمّة من موقعه ما يربي على ما يفعله المقيم في الشام.
- وليفكّر كل مسلم في خندقه الذي يستطيعه ويرضي الله تعالى، ولا ييأسنّ من البذل والعطاء، ولعلّ الله ينفع فيه ويصلح بما لم يكن ليتصوّره، وبدلا من لوم نفسه فلينهض من أساه ولينهل من الكتاب والسنّة وسير السلف ليكون مثلهم في البذل والعطاء للأمّة. كان سلمان حكيمًا بحرا في العلم في العراق، ينصح أخاه أبا الدرداء الذي كان يعلّم القرآن في دمشق الشام، وكانا أخوين متحابّين متناصحين متصافيين.
- "الأرض المقدّسة" غير محصورة في فلسطين، فضلا عن أن تكون محصورة في "فلسطين الانتدابية" التي رسمت بريطانيا حدودها، بل تشمل سائر بلاد الشام؛ إذ كان أبو الدرداء في دمشق قاضيا، ودعا أخاه سلمان الذي آخى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بينهما إليه.
- فإذا قرأتَ في الآثار عن فضائل بلاد الشام فلا تحسبنّها مخصوصة بسوريا الفرنسية وتنسى فلسطين، وإذا قرأتَ عن الأرض المقدّسة وأكناف بيت المقدس فلا تقتصر على ما أدخلتْه بريطانيا في حكومتها في فلسطين وتُخرج سائر بلاد الشام، فإنّما هي وحدة جغرافية واحدة منذ عهد رسول الله صلى الله عليه وسلّم، ولها أهميّتها ومحوريّتها قديمًا وفي عصرنا هذا، وعدم الوعي بذلك وما يترتب عليه من الرؤية والعمل من أهم الآفات التي تعتري أفكار المسلمين في هذا العصر. وكل تمسّكٍ وافتخارٍ بالهويّات الاستعمارية الأربع التي مزّقت الشام (السورية، اللبنانية، الأردنية، الفلسطينية) هو خيبة وخسران، وتمترسٌ حول سرديات فاشلة تزيدنا ضعفا وشتاتًا.
- شريف محمد جابر
#شذرات
••┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈••
✦ T.me/Shathrate