وكان هذا يكفي كي تُطبِقُ الفَضيحة على عنقها ؛ مثل حبلٍ مَبلول قاسٍ ..
وبألسنتهنّ هنّ؛ يكتُبن نَعيها ..
كان الحديث يكتسبُ حولها بُعدَ الشَماتة ، و تُهنّئ بها النُسوة موتاً لذيذاً !
{ تُراود فَتاها } ..
نعم فتاها ولقد كانَ ذلك حَدثاً استثنائياً فـي عالم القُصور ..
جعل الفَضيحة تجري على ألسنةِ النُسوة ؛ بلا نَعل ..
تَجري حافيةً ؛ لا تلوي على سِـتر !
وللتُهمة تلك صَـدى ..
وما أوجع الصَدى !
{تُراود فَتاها } ..
يَنطقْنها بضآلةٍ متناهيةٍ ؛ فتعبُر الكلمات إليها ..
وفي المجالس ؛ يتَناولنها النُسوة بقسوةٍ تُشبه النَهش .
لَرُبما لهذا ؛ { اعْتَدت لهنّ مُتكئاً وآتتْ كُل واحدةٍ منهنّ سِكّينا } !
كانت القِصة تَنمو في الوسط الحاكم ؛ مثل نَبتة وَحشية ..
ترتفعُ الثَرثرة ؛ زبَـدٌ على زبَـد ..
وتديرها النُسوة ؛ على نسقٍ خَـاص ..
أوّلـه ؛ النَيل من الّلقب " امرأةُ العزيز " ؛ بالّلقب الذي يجعلها تموتُ ألفَ مَرة ..
ثمّ { تُراود فتاها } ..
تلك شتيمةٌ بلغة لا تَخفى !
{ قد شَغفها حُبا } ..
وهو وصفٌ لرعونتها ؛ وليسَ أقل من ذلك !
{ قد شَغَفَهَا حُبًّا } ..
تبدو الكلماتُ هنا؛ ملأى بألفِ معنى .. وفي البواطن ؛ ضجيجُ اتهامٍ عميق !
هكذا إذن تبدو هي في المجتمعات الحاكمة ..
سيدة مهزومة وملوّثة بذكرى تطفحُ بها ألسنة النُسوة ..
نسوةٌ يسترقنَ السَمع ؛ وألسنتهنّ مشغوفةٌ بمحنتها !
والكلماتُ في تعابيرها ؛ موغلةٌ في نَزع السِّتر ..
ويبدو معها قلبُ امرأة العزيز ؛ مَفضوحا !
وعلى حين كانت خُطة النّسيان { يوسُف أعرِض عن هَذا } .. إلا أن { نُسوةٌ } بتعبيرِ القلّة ؛ قلبنَ الخُطة ، وَمضغوها قربانا !
{ إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ } ..
{ إنا لنَراها } ..
هكذا إذنْ تبدو القصة ؛ عاريةً جراحها !
وعلى حين غرة ؛ تُبصر نفسها بوضوح في مرايا الآخرين ، حيثُ يُعبِّر حرف (فـي) عن انغماسٍ شنيع !
{ فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ } ..
هنا يكشفُ القرآن عن حالةٍ شعورية عميقة لدى النّساء ..
أن الإنتقامُ ؛ هو طبيعةٌ نفسية لا تتنازلُ عنها المرأة !
والمكرُ هنا ؛ كان ثرثرةً محبوكة لها غاياتها ..
ولا يُتقـِن ذلك أحدٌ ؛ مثل النساء !
وفي القُصور ..
تملك النساء السُلطة ، والإغواء والقَرار ؛ عبر الثَرثرة !
{ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ } ..
فقد كان الغضب جُموحاً معادياً ، وجاء ردّها من ثم قاسياً وجارفاً عبر مشهدٍ غير متوقع !
{ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً } ..
والحالةُ هنا تتشابـه ..
إذ الإتّكاء يوحـي بما غَمَزْنها بـه ..
وهكذا تبدو المَراسم مُكتملةٌ ، والابتساماتُ مرسومة بمكر ، والرَوائح العِطرية تجتاحُ المكان !
وثمّة قرارٍ لديها؛ بإشعال الجَمرة في مواقدهـنّ ..
لذا ؛ أتْقنت الحبكة { وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّينًا } !
لقدْ كانت تُعيد رسم المشهد ؛ بكيدٍ هائل ..
تنسلُّ إليهنّ بالدهشة ..
وعلى حين كان الجَو يبدو مبهماً ولا أحد يعلم ما خلفَ السّتارة ..
كانت كُل لحظةٍ بالنسبة إليها ؛ نصراً لخطيئتها !
{ وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ } ..
يا ليوسُف وهو يقفُ بين عذابِ الصمت ؛ ورتَابة الإنتظـار للمجهول !
{ اخرُج عليهن } ..
كيْ تقتات النُسوة على جمرةٍ ؛ يحترقنَ بها !
ثمّة أسىً ؛ ينتظره في هذه المَسرحية الهزلية ..
يقفُ وحده أمام مُعاناته بقلبٍ مخدوش ، حيث تَفاوُض النُسوة عليه !
{ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ } ..
فجأة تطيرُ نفوسهنّ ؛ شظايا ..
ويحصد يوسُف ألماً جديدا !
{ أكْبَرْنَهُ } ..
فثمّة انفصالٍ مهوّل ؛ بينه وبينهـنّ ..
رُبما كانت تلك عظمة التَسامي التي لا يعرفنها !
{ أكبَرنه } ..
وأدركنَ أنه أكبرُ من الانتهاك !
{ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ } ..
يَـا للمُفارقة !
يُقطِّعن أيديهن في هَذيان ؛ خارج المنطق ..
تماماً كما قطّعنها بألسنتهـن !
{ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَٰذَا بَشَرًا إِنْ هَٰذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ } ..
فقدْ كان إنساناً يَمتحنُ البَشرية كُلها ؛ عبر عُروجه !
{ ما هذا بَشر } ..
نفيٌ يتبعه إثباتٌ مؤكد بالقَصر !
{ وَقُلن حاشَ لله } ..
يضجُ المَجلس بكامل وَهجهنّ ، ويتبعثرنَ أمام هذا الهدوء الشاسِع !
تتجوّل أعينهنّ فيه ؛ ولا يعبُرنه .. فقد كانَ زمناً ممتلئٌ بعدم الإنهيار !
يقفُ يوسف في المَشهد ؛ والأصوات الصاخبة تدكّ في قلبه .. ولا أوتادَ حوله !
ثمّة فراغٍ يشدّه إلى الهاوية ..
والروائح العابثة ؛ تكادُ تسحب عنه ملاءَة الثبات !
سَتبقى هذه اللحظةُ ..
خالدة في الذِكرى ؛ لا يقوى عليها النسيان .
ويشهدُ الله في تلك اللحظة ..
أنَ يوسف كَـان معهـنّ ؛ وكَـان هو وحـْده !
{ قَالَتْ فَذَٰلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ } ..
تحاول هنا أن تنزعَ نفسها من الفَضيحة ؛ عبر مُبررٍ تحاول به طِلاء خارجها ، فيزيدها الطِلاء تشوّه في الداخل !