وهذا أمر ينبغي التفطن له، فإن كثيراً من الشباب الطيب المتحمس المتعطش للشهادة قد يحزن ويصيبه شيء من اليأس وجَلد الذات إذا طالت المدة ولم يتخذه الله شهيداً، لا سيما إذا رأى إخوانه وأحبابه مِن حوله يصطفون للشهادة تترا، ولاحظ -كما يلاحظ الجميع- أن الله تعالى يصطفي للشهادة مَن هم من خيرُ الناس وأطهرُهم، ولكنه يغفل عن سنة أخرى موازية كفيلة بأن تقضي على بذور القنوط و تشعل فيه لهيب الحماسة والعمل، وهي: سنة الاستبقاء:
فإن الله تعالى كما يصطفي لنفسه الشهداء يستبقي لنفسه ولدينه الصلحاء الذين هم غرْسُه الذي غَرَسَهُ على عينه ليرفع به لواءه ويعز به دينه، كما قال الله تعالى لنبيه وصفيه موسى عليه السلام: {وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي}، {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي}، والله عز وجل لم يسْتَبْقِ إلى ما بعد التمكين أبا بكر وعمر وعثمان وعلي وخالد وأبا عبيدة ومعاذاً وسعداً وغيرهم رضي الله عنهم لأن إخوانهم من الشهداء خير منهم؛ بل اصطفاهم للاستبقاء ليقيم بهم دينه علماً وجهاداً كما اصطفى إخوانهم للشهادة قبل التمكين، ثم إن منهم من استشهد بعد ذلك ومنهم من مات على فراشه ومع ذلك نال مرتبة الشهادة بإذن الله بصدقه في طلبها كما وعد الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم، فعن سَهْلَ بْنَ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ رضي الله عنه، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ سَأَلَ اللهَ الشَّهَادَةَ بِصِدْقٍ مِنْ قَلْبِهِ، بَلَّغَهُ اللهُ مَنَازِلَ الشُّهَدَاءِ، وَإِنْ مَاتَ عَلَى فِرَاشِهِ"، ومِثْلُ ذلك مَن يطلب الجهاد، فإن ناله نشط وإن حُرمه كسل واستكان، وهذا كله في حقيقته نوع من الهوى والاقتراح والاشتراط على الله تعالى يخالِف التسليم التام والعبودية الخالصة لرب العالمين.
وهذه المعاني الرفيعة لا يتذوقها إلا من وهب حياته لدين الله وباع نفسه لمن هو أرحم بها منه وعرف معنىً وعملاً مفهوم الحياة في سبيل الله كما علم معنى الموت في سبيل الله، فعبد الله حقاً هو الذي يُسْلِم روحه لله تعالى في حياته لا في مماته، وهو الذي يعيش في سبيل الله كما يموت في سبيله، فتكون كل حياته وحركاته وسكناته خالصة لله تعالى حيثما أقامه الله قد فني في مراد الله عن مراد نفسه ودار معه حيث دار، ثم هو مع ذلك يسأل الله تعالى أن يختم له بالشهادة بصدق، فلا تفوته بإذن الله ولو مات على فراشه، فهذا هو نِعْم العبد الخالص البصير.
الشيخ د. رامي بن محمد الدالي