الصنف: فتاوى الأسرة ـ عقد الزَّواج ـ موانع الزَّواج
في شرطِ تحقُّقِ المحرميَّة بالرَّضاعِ في الزَّواجِ
السؤال:
في صورةِ مسألةِ زواجٍ اشتبه عليَّ حُكمُها، وهي كالآتي:
تزوَّج أحمدُ مِنْ ضَرَّتَيْن: [فاطمةَ] و[سَلْمَى]، ثمَّ أنجبَتْ فاطمةُ: عمَّارًا، بينما أنجبت سَلْمَى: عائشةَ؛ ثمَّ حدَثَ أَنْ تزوَّج عمَّارٌ وأَنجبَ زيدًا، وتزوَّجت عائشةُ وأَنجبَتْ وردةَ، فهل يجوز زواجُ «زيدٍ» مِنْ «وردةَ»؟ مع العلم أنَّ زيدًا ووردةَ أَرضعَتْهما سَلْمَى؛ أفيدونا جزاكم اللهُ خيرًا وزادكم مِنْ فضله.
الجواب:
الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلام على مَنْ أرسله الله رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبِه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد:
فاعْلَمْ أنَّ الرَّضاعَ الشَّرعيَّ الَّذي تَحصلُ به المَحْرَميَّةُ في هذه المسألةِ يتحقَّقُ بالرَّضاعِ الحاصلِ مِنْ كُلٍّ مِنْ «زيدٍ» و«وردةَ» مِنَ المُرضِعةِ «سَلْمَى» جدَّةِ «وردةَ»، بشرطِ:
أوَّلًا ـ أَنْ يكونَ للجَدَّةِ سَلْمَى لبنٌ، وليس بمُجرَّدِ الْتِقامِ الثَّدي دون وجودِ لبنٍ أو دون مصِّ اللَّبن، إذ قد لا يكون عندها لبنٌ بالنَّظرِ إلى عدمِ ولادتِها مِنْ قريبٍ أو نُدرةِ لبنِها أو تقدُّمِها في السِّنِّ.
ثانيًا ـ أَنْ يكونَ عددُ الرَّضعاتِ خمسًا معلوماتٍ مُشبِعاتٍ على القول الرَّاجحِ مِنْ مذاهبِ الفقهاءِ، لقول عائشةَ رضي الله عنها: «كَانَ فِيمَا أُنْزِلَ مِنَ القُرْآنِ: عَشْرُ رَضَعَاتٍ مَعْلُومَاتٍ يُحَرِّمْنَ، ثُمَّ نُسِخْنَ بِخَمْسٍ مَعْلُومَاتٍ، فَتُوُفِّيَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُنَّ فِيمَا يُقْرَأُ مِنَ القُرْآنِ»(١).
ثالثًا ـ أَنْ يكونَ في الحولَيْنِ مِنْ سِنِّ الرَّضيع، لقوله تعالى: ﴿وَٱلۡوَٰلِدَٰتُ يُرۡضِعۡنَ أَوۡلَٰدَهُنَّ حَوۡلَيۡنِ كَامِلَيۡنِۖ لِمَنۡ أَرَادَ أَن يُتِمَّ ٱلرَّضَاعَةَ﴾ [البقرة: ٢٣٣]، ولحديثِ عائشة رضي الله عنها قالت: دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعِنْدِي رَجُلٌ قَاعِدٌ، فَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ وَرَأَيْتُ الغَضَبَ فِي وَجْهِهِ، قَالَتْ: فَقُلْتُ: «يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّهُ أَخِي مِنَ الرَّضَاعَةِ»، قَالَتْ: فَقَالَ: «انْظُرْنَ إِخْوَتَكُنَّ مِنَ الرَّضَاعَةِ، فَإِنَّمَا الرَّضَاعَةُ مِنَ المَجَاعَةِ»(٢)، فإِنْ تمَّتِ الرَّضعاتُ بالصِّفة المذكورةِ مِنِ امرأةٍ كانت أُمَّه مِنَ الرَّضاع.
ـ فإِنْ رضَعَ «زيدٌ» و«وردةُ» كلاهما مِنَ المُرضِعةِ «سلمى» أقلَّ مِنْ خمسٍ، لم تتحقَّقْ المَحرَميَّةُ، وكذلك إذا كان كلاهما لم تتمَّ له الرَّضعاتُ الخمسُ المُشبِعاتُ في الحَولين الأوَّلَيْن مِنْ سِنِّهما فلا تتحقَّقُ المَحرَميَّةُ أيضًا، وفي هذه الحالةِ والَّتي سبَقَ ذِكرُها يجوز تزويجُهما مِنْ بعضٍ.
ـ أمَّا إذا ثبَتَ الرَّضاعُ الشَّرعيُّ بشروطِه المتقدِّمةِ لكِلَيْهما فهُما وَلَدَانِ لأمِّهما «سَلْمى» بالرَّضاعِ الشَّرعيِّ، ويُعَدَّانِ أخوينِ بالرَّضاعِ، لأجلِ ذلك يَحرُمُ الزَّواجُ بينهما، لقوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «وَيَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ»(٣).
والعلم عند الله تعالى، وآخِرُ دعوانا أنِ الحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبِه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسلَّم تسليمًا.
الجزائر في: ٢٨ جمادى الأولى ١٤٤٦هـ
الموافق ﻟ: ٣٠ نوفمبر ٢٠٢٤م
(١) أخرجه مسلمٌ في «الرَّضاع» (١٤٥٢).
(٢) مُتَّفَقٌ عليه: أخرجه البخاريُّ في «الشَّهادات» باب الشَّهادة على الأنساب والرَّضاعِ المستفيض والموتِ القديم (٢٦٤٧)، وفي «النكاح» بابُ مَنْ قال: لا رَضاعَ بعد حولين (٥١٠٢)، ومسلمٌ في «الرَّضاع» (١٤٥٥).
(٣) مُتَّفَقٌ عليه: أخرجه البخاريُّ في «الشَّهادات» باب الشَّهادة على الأنساب والرَّضاعِ المستفيض والموتِ القديم (٢٦٤٥)، ومسلمٌ في «الرضاع» (١٤٤٧)، مِنْ حديثِ ابنِ عبَّاسٍ رضي الله عنهما.
ولمزيد العلمِ في هذه المسألةِ يُمكنُ إضافةُ صُوَرٍ أُخرى افتراضيَّةٍ، يَحسُنُ ذِكرُها في هذا المَقامِ، وذلك: إِنْ ثبَتَ الرَّضاعُ الشَّرعيُّ بشروطه المذكورة لأحَدِهما دون الآخَرِ:
ـ فإِنْ تحقَّقَتِ الشُّروطُ في رضاعِ زيدٍ مِنْ سَلْمَى ولم تتحقَّقْ في رَضاعِ وردةَ منها فإنَّ زيدًا يكون ابنَ سَلْمَى مِنَ الرَّضاعِ وأخًا لعمَّتِه عائشةَ مِنَ الرَّضاع وخالًا لوردةَ مِنَ الرضاع، فيَحرُمُ زواجُه منها.
ـ وأمَّا إِنْ تحقَّقَتْ الشُّروطُ في رضاعِ وردةَ مِنْ سَلْمَى ولم تتحقَّقْ في رضاعِ زيدٍ منها فإنَّها تصيرُ ابْنَتَها مِنَ الرَّضاع وتكون أختًا لأمِّها عائشةَ بالرَّضاع، وهل تكون أختًا لعمَّارٍ أيضًا؟: