تخيلت هذا الجبلَ العظيم الذي عاش مرارة الزنزانة الانفرادية، والسجن الظالم لأكثر من 22 سنة، قبل أنْ يُفرج عنه في صفقة تبادل عنوةً بقهر السلاح.
كان في لحظةٍ؛ غايةُ ما يتمناه أن يرى السماء من غير حاجز "الشَبَك"، أو يرى النجوم في السماء من غير حاجز الإنارة القوية المانعة، أو يأكل ما يحب في الوقت الذي يحب؛ أو يحظى بهدوء للتعبد والصلاة من غير تشويش وتشغيب السجانين، أو تسلَم له حياة خالية من الروتين المانع حتى من أدنى حقوق الإنسان في الزواج وأن يكون له ذرية طيبة تكمل رسالته وتحمل اسمه !!!!!
هذا باختصار شديد ربما ما كان يتمناه "جبل فلسطين الفذ" أبو إبراهيم -تقبله الله- في عزله الانفرادي!
خرج لتجتمع الدنيا في يديه لا قلبه، ويجتمع له فيها ما لم يجتمع لكثير ممن لم يعاينوا مرارة السجن ولو ساعات: مسئول سياسي محنك، كريمٌ في قومه، عزيزٌ في بلده، حوله حراسة ومتاع، محط أنظار قادة في المحيط يخاطبونه خطاب التبجيل والتعظيم والاحترام!!
بالنظرة العجلى؛ هذا غاية ما يتمناه محروم مسجون.
مثلُه لو تسلل "بعض الدنيا" لقلبه لعاش لها معتذراً بكبير ما قدمه في سبيل دعوته وقضيته واكتفى، ولما فكّر ولو للحظة مجرد تفكير بخوض معركة بحجم الطوفان !!
لكنّه لم يكن رجلاً عادياً أبداً، عاش لدينه ودعوته صادقاً، فجعل دنيا الناس تحت قدمه، ورمى زخرفها دَبْرَ أُذنه، وكان حيث يجب أن يكون، فتغنّى الناس ببطولاته، وطاروا بعظيم ما صنع، وتمنوا ألو كانوا جزءًا من جليل فِعالِه.
فلما جاء وقت وجوب استحقاق الضريبة، قفز المعذّرون من طالبي الراحة من سفينة الطوفان، وقعد المخذّلون بشاطيء السلامة متعالِمين مصححين، وطاف الذي لم يخض في حياته تجربةً جهاديةً كأنّه إمام عصره ناصباً موازين المصلحة والمفسدة يقيسها بقواعد قعوده وإخلاده لأرض الهمالة؛ ليبرر عجزه وجبنه وخوره!!
هي سنة الله في التمايز، فليس الاصطفاء إلا محض اختيار الله وتوفيقه؛ وسبيل العظماء شاقٌ جداً على الجبناء، وطريق الأباة الأفاضل وعـرٌ جداً على الأراذل !!
ليست الحكمة بالأثر الرجعي بحكمة؛ وإنما هي في غالبها تبرير لعجز التخلف عن مقتضياتها وأهلها.
ليست الحكمة محاكمة التجارب العاملة على أريكة الراحة في ساحة السلامة من عاقبة "مجرد المحاولة"
وإنما الحكمة وضع الشيء المناسب في المكان المناسب والزمان المناسب مع الشخص المناسب بحالة مناسبة.
وليس الطوفان وأصحابُه إلا ترجمةً عمليةً لهذا المعنى وإنْ لم تدركه عقول طالبي الغنيمة من غير كُلفة وضريبة!!
قد تتفاخر المنظومة الصهيونية والطاغوتية بأنها مارست "محاولة كيٍّ للوعي في العقل الجمعي للجيل" بأن الكيان قلعة شامخة ما ينبغي التفكير بالرتوع حول حماها؛ ولكنّ الواقع شاهدٌ أنّهم لم ينجحوا حتى في هذه، وأنهم استعجلوا فناءهم لمقتضى السنن الإلهية التي لا تتخلف عنهم ما عاثوا في الأرض علواً مفسداً ﴿ وَإِن عُدتُم عُدنا وَجَعَلنا جَهَنَّمَ لِلكافِرينَ حَصيرًا﴾ وأنّها لم تزد إلا أن صبّت ماء الثأر على بذور جيل لم يستقر في خلده شيء كاستقرار صورة البطل الشهيد على كرسيه وحيداً يقاتل حتى آخر رمقٍ، يحمل عصا بيدٍ شبه مبتورة ليرمي بها جحافل جيش عرمرم، ليقيم في نفس الجيل طوداً جهادياً عظيماً يسترخص معه كلّ فقد وبذل في سبيل دعوته.
رحم الله إماماً شهيداً مرّ في دنيانا فترك فينا أثراً دالاً على صحة الطريق، وسلامة المنهج.
الدكتور نائل أبو محمود-