●في هذه الآية الكريمة من الفوائد البلاغيّة، والمعاني، والنّكاتِ العلميّة، ما هو دليل واضح على دلائل الإعجازِ في الكتاب العزيزِ، وما فيه، من جودة التّراكيبِ العجيبة، ورصفِ الكلمات، الدّقيقة،
ورونق التّعبير العجيب، وإيراد الأسلوب الغريب، ومن الفوائد ما نقلته من الكتب، وأكثرها خواطر من فيض القلب، وأبكار الفكرة، استنباطاً من قواعد علم البلاغة. فتأمّل.
●قوله:"وضرب" الواو لعطف هذه الجملة على ما قبلها، لما بينهما من اتّحاد اللّفظ والمعنى خبريّا، مع وجود جامعٍ بين الجملتين من التّضادِ، وهذا ما يسمّى عند البلاغيّين بالتّوسّط بين كمال الاتّصال، وكمال الانقطاع، مع وجود جامع بين الجملتين، وربّما يكون عطف قصّة على قصّة، وهذا من أساليب القرآن. فتبدّبر.
●أمّا"ضرب"فهو من الضّرب، مستعمل مجازاً في الوضعِ والجعلِ، كقولهم: من ضرب خيمةَ، وضربَ بيتاً، والعلاقة بين الوضع والمثل أنّ كلّا منهما يهتدي به النّاظر وينظره، فجعل المثل كالخيمة دلالةً.
وجوّز بعض أئمّة اللغة: أن يستعمل على حقيقته، فهو من الضّربِ، بمعنى المماثلِ، ومن الدّقّة البلاغيّة احتمال الفعل على المعنيين احتمالا سويّا، مع وضوحهما وعدم تضادّهما في المعنى.
●أمّا "اللهُ" لفظ الجلالة ذات العظمة والجلال، والكمال، وفيه من البلاغة في هذا المقام معنى لطيف، وهو المسند إليه، مذكور لأجل التّسجيلِ، ولتقرير نفس السّامع، والمعنى: الضّاربُ بالمثلِ هو الله تعالى، ذو الجلالة والعظمة، فثبّتوها في قلوبكم، واجعلوها في أذهانكم؛ لأنّها من الله العظيم. والله أعلم.
●أمّا "مثلا" المثيلَ والأسوة والقدوة في اتّباع الحقّ، والرّمز في القمّة والهداية والتّعلّق بالحقّ مع الظّروف الشّديدةِ، و"مثلا" إمّا أن يكون منصوبا على المفعوليّة، إذا حملنا معنى "ضرب" على المجازِيّة، فيكون من باب تقييد الفعل بالمفعول، فيكون معناه، ووضع الله مثلاً وجعلَ، أو يكون منصوبا على المفعوليّة المطلقة،
إذا كان فعل "ضرب" على حقيقة معنى مثلَ، فيكون تأكيد لمعناه، وهذا يحمل على تركيز أن ينتبه السّامع، لتقرير المعنى في ذهنه، وكلا المعنيين واضحٌ سائغ في اللغة، تكلّم عنهما العلماء البلاغيّون في علم المعاني. والله أعلم.
●أمّا " للّذين أءمنوا امرأت فرعون " جاء الموصول وصلته معاً، ومراده المدح بالإيمان، والحثّ عليه، وفيه تقييد بالفعل، "ضرب" فعلى المؤمنين الاقتداء بالسّيّدة آسية بنت مزاحم المؤمنة، كما يستفاد من نصّ التّقييدِ في الآية، و "امرأت فرعون" هي آسية،
والإضافة لما بينهما من النّكاحِ لا تفيد للمضاف تشريفا ولا تحقيراً،
ولا للمضاف إليه كذلك، ولكن جاءت الإضافة لإدنى ملابسة بينهما، وهي النّكاحُ والأسريّة؛ ولذلك استدّل الشّافعيّ على صحّة أنكحة الكفّار في كفرهم، ولم يسمّ الله امرأت فرعون بالتّسميّة صراحةً،
جرياً على عادة العربِ في عدم تسمية النّساء، وهذا ملحظ دقيق، خولف في تسمية مريم بنت عمران صراحة في القرآن، وذكرها العلماء كالسّيوطيّ وغيره في كتبهم. فتأمّل.
●أمّا ما يتعلّق بلفظ "ربّ" اختار المؤمنون في مواضع الدّعاء في القرآن العظيم لفظ " ربّ " ربّنا " وفي هذه اللّفظة معنى مناسب للدّعاء، بل هو من أسباب قبول الدّعاء؛ لأنّ لفظ "ربّ" مأخوذ من ربّى تربيّةً، والتّربية نموّ الشّيء وزيادته، مع العناية به، والمراعاة، فالله تبارك وتعالى مربّي العالمين كما في قوله: ﴿ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ رَبِّ ٱلۡعَـٰلَمِینَ﴾ [الفاتحة ٢] فالمربّي أسمعُ إجابة من يربّيه، والله سميع الدّعاء، ففي هذه الكلمةِ "ربّ" إقرار بما أنعم الله على المؤمنين من نعماتٍ ظاهرة وباطنةٍ، وممّا يسبّب القبول إقرار العبد بالنّعمة والضّعفِ، والذّكر والشّكر بالنّعم الجليلة. والله أعلم.
●حذف من هذه اللّفظةِ "ربّ" حرف النّداء "يا" في جميع آيات الدّعاء، وهذه دلالة واضحة على أنّ الله قريب مجيب دعوة الدّاعي عند الدّعاء، كما في الآيتين ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِی عَنِّی فَإِنِّی قَرِیبٌۖ أُجِیبُ دَعۡوَةَ ٱلدَّاعِ إِذَا دَعَانِۖ فَلۡیَسۡتَجِیبُوا۟ لِی وَلۡیُؤۡمِنُوا۟ بِی لَعَلَّهُمۡ یَرۡشُدُونَ﴾ [البقرة ١٨٦]، ﴿وَلَقَدۡ خَلَقۡنَا ٱلۡإِنسَـٰنَ وَنَعۡلَمُ مَا تُوَسۡوِسُ بِهِۦ نَفۡسُهُۥۖ وَنَحۡنُ أَقۡرَبُ إِلَیۡهِ مِنۡ حَبۡلِ ٱلۡوَرِیدِ﴾ [ق ١٦] فوالله تبارك وتعالى دان في علوّه، عال في دنوّه، عليم بكلّ شيء في السّماء والأرض، مستوٍ على عرشه كما يليق بجلاله وعظيم سلطانه، بيده الأمر والحكم مالك الملوك.