"إنّ هذه الدنيا قد تغيّرت وتنكّرت وأدبر معروفها، فلم يبقَ منها إلا صبابة كصبابة الإناء وخسيس عيش كالمرعى الوبيل، ألا ترون أنّ الحق لا يعمل به وأنّ الباطل لا يتناهى عنه، ليرغب المؤمن في لقاء الله محقاً، فإنّي لا أرى الموت إلا سعادةً ولا الحياة مع الظالمين إلا برماً."
في رواية الشوك والقرنفل ليحيى السنوار استعار هذه العبارة الجليلة، ولم يلبث سوا أن تحققت عبارة عمر بن الخطاب عندما خاطب بها المشركون في شخصية السنوار واستشهاده ودفاعه حتّى آخر رمق، ولم يجد سوا العصا لقتال العدوّ وفعل! ومن المركزيات المهمة في العقيدة إنّ البقاء لله وحده، وهذه حقيقة عظيمة لا ينبغي أن نغفل عنها. يقول الله تعالى في كتابه العزيز: "كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ." وهذا يعني أن كل مخلوق في هذه الدنيا إلى زوال. فما من شيء يدوم إلا وجه الله.
وقوله تعالى: "إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ." هنا نرى أن الحياة الحقيقية والدائمة هي لله وحده، فهو الذي لا يموت ولا يتغير، وهو الذي يدير شؤون الكون بحكمته.
وإن من أعظم الفضائل التي أمر بها الله سبحانه وتعالى هي فضيلة الصبر، خاصةً في الأوقات الصعبة والأحداث الجسيمة. وقد شهدت الأمة الإسلامية في تاريخها الكثير من المحن، ومن أعظم هذه المحن استشهاد الصحابة الكرام الذين بذلوا أرواحهم في سبيل الله. والأهم أنه لا يوجد حدثٌ أعظم من وفاة سيّدي النبيّ ﷺ. فلنستمد من هذه الأحداث العظيمة قوة في قلوبنا، ولنجعل من وفاة النبي واستشهاد الصحابة دروسًا لنا في الصبر والثبات. فهُم نموذج يُحتذى به في مواجهة التحديات والبلاءات. في هذه اللحظات العصيبة، لنتذكر قوله تعالى: "أُو۟لَـٰئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ ۖ وَأُو۟لَـٰئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ."
علينا أن نتذكر دائمًا أن الصبر هو السبيل لبلوغ الفلاح في الدنيا والآخرة، وأن الله مع الصابرين في كل حين.
فقد قال سيّدي النبيّ ﷺ: "من لا يصبر على فقدان الأحبة، لا يُرجى له الأجر عند الله."
إن الصبر هو السبيل الوحيد الذي يُعيننا على تجاوز الأزمات، وعلينا أن نتذكر دائمًا أن الشهداء عند ربهم يُرزقون. يقول الله تعالى: "وَلَا تَقُولُوا لِمَن يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ ۚ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِن لَّا تَشْعُرُونَ." ___________
بسم الله على قلوبنا، القلوب التي يصل بها البكاء حدَّ التسليم ثم تعود برحمة الله، علّها يُكتب لها الموت فداءً لا ألمًا، القلوب المشتاقة لمن رحلوا، الموجوعة على من لم يرحلوا، القلوب التي تتمنى الوصل والوصول بالثأر المقدّس، القلوب الفقيرة تئن باثّةً شكوى فؤادها لله، القلوب المؤمنة أن الرزايا عطاء، بسم الله على هذه القلوب إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولًا.
الحزن؛ الرفيق الرقيق الشجي الذي ترى من خلاله الدنيا كعدسة تعيد للأشياء حجمها الحقيقي.
إنّ الحزين غريب في وطنه وبيته، والحزين إذا ما لقي حزينًا فكأنما اتسعت الغربة لتجمع أبناء الوطن.
الحزن؛ غُربة، والوجود كله غُربة لإنسان يشعر بأن بروحه ما لا تتسع الأرض لتضمه، وأن مستقره في السماء وفيما لا يجد من القول أو الرؤى، ولذلك فالحزن عين، عين لأنها غربة، والغريب لا ينظر للمدينة كما ينظر لها أبناؤها، بل ينظر بتفحص وارتياب ويبحث عن أسباب كل شيء فيما حوله، حتى إذا ما اجتمع غريبان نسيا التفحص وتبادلا الريبة، ورضيا بالمكوث دون السؤال، حتى إذا مر الزمان عاد كل غريبٍ لغربته، كل لعينه، فيسكِّنُ كلٌّ منا حزنه ليرى العالم من حيث شاء.
بعض الأحيان "يصغّر" الإنسان من عقله، فينزل في مستواه لمجادلات لا تليق به. تارةً يغلب المندفع على النفس، وتارةً يغلب الحليم عليها، والغلبة دائمًا للحليم إذا رجحت لديه كفّة الترفّع عن صغائر الأمور وأصحابها، وكما قال غازي:
"تأبى الرجولة أن تدنّس سيفها قد يُغلَب المقدام ساعة يغلِبُ."
رواية الصمود لا تلغي عذابات شعبنا ولا تُسخّف منها، صاغها الراحل حسين البرغوثي ببراعة ذات مرّة حين قال:
"ولَنا أهلٌ وبلادٌ يا سيّد نحزن مثلَ بَقيّة خلق الله ويُؤلمنا أنّ الخُطى تنفصل كأنهار الخرائط يا سيّد.. وجدنا الحياة فعشناها ومَن كُتبَت عليه خُطىً مَشاها."
أجلِسُ تحت الشجرة، أحدّثُ نفسي بالأحلام، وببوصلة الضياع لأجد طريقي، واستدلُ على ما يواري خلف هذه الدُّنيا، وفي صدري حاجةٌ لا أبوحُ بها، وأخلِصُ في كتمانها، لعلّي؛ أن أجدَ لها قضاء، وعلى مرارة وقع معرفة عدم قضائها، فإن من بلغ الصبر نهايته، والحكمة غايتها، يسيرُ صامتًا ولا يأبه، ولأن الله أودع فينا المُضغَ النضّاخة، وكأنّها شجرةٌ نستلذ بثمارها وعذوبتها بعد مكوثٍ طويلٍ تحتها، فالصّدر إذا ضاق بما يحمل؛ كان كالبحر حين تعصف به الرياح، يُهيج أمواجه ويعلو زبده، ولكنه إذا تحلّى بالتجلّد، كان كالجبل الشامخ، يواجه العواصف بصلابة وسكون، ولأن السرائر لا تُباحُ لكل سامع، فالنفوس مجبولةٌ على التقلب، وللنفس العالية أُنفةٌ من الشكوى، وأن الإخفاء أقرب للفرج، وأقوى على المِحن ومشقاتها، فكم من صدرٍ ضاق بهمومه، ولكنّه بالتمنّع عن الإفصاح ارتفع عن ضجيج دُنياهُ، ولو أطلق حاجته، لربما؛ كانت وبالًا، ففي الإيداع في النّفوس سكينة، وهي سلاح الحكيم الذي يُدرك أن ليس كل ما يُعلم يُقال، وأن في القلب مساحات لا يسكنها إلا صاحبه، وأقرب إلى الطمأنينة، فلا يُثقله أعباء الكلام ولا يُهدده انكشاف السرائر، مطمئنًا إلى أن ما يودع فيه من مشاعر وأفكار محصن بحصنٍ منيع، لا يُسرب منه إلا ما شاء هو أن يخرج.
عبارة لا تفارقني، ولا يخفّف من وقعها سوى حُسن العزاء وجزيل الثّواب، وإلّا فإنّ الشقاء ألّا يدرك المرء حاجة قلبه في الدّنيا، فتظلّ حبيسة صدره ورهينة خيالاته، حتّى يموت ولا يدركها.