ثمّ سِيقَت إلى المَشفى، وهاهِي الدّقائقُ تمرُ على قَلبي.
آخرُ عَهدي بها كانَ اتّصالي، لا زلتُ أتحدّث بنبرةِ ثقةٍ وقوّةٍ أمامها وأسألُ وأُجيب وأفتحُ حواراتٍ مُدّعيةً أنّ كلّ شيءٍ على ما يُرام، مُطمئنةً لها، ثمّ أُقاطعُ صوتَها المُتعَب لأؤكّد لها أنّه تحسّن، وأنّي صرتُ ألمِسُ فيها الصّحة والتّعافي، وهاهيَ الأمور يا حَبيبةُ تَتحسّن يومًا بيومٍ فلمَ القَلق!
ثمّ، ما إن أُغلقُ سمّاعة هاتِفي، حتّى أنهار ببُكاءٍ تتقطّع لهُ نِياط قلبي، ففي الحَقيقةِ ما تعافَت، ولا تحسّن منها شَيء.
لطَالما كانَت الملجأَ الأوّل لي حينَ أتألّم، مِن أبسَط سببٍ أحيانًا، فتَهبُّ إليَّ وهدفُها أن تَفيض عليّ السّعادة وكأنّ حُزني قضيّتها الأولى، وقد فعَلت، طَرقت بابي ليلةً حاملةً الورد الذي أحبّ، وزارَتني في مَكان دِراستي مرّاتٍ لتَكونَ معِي، ما تَركت في نَفسي رغبةٌ إلا حقّقتها، ولا فَرحةٌ إلا كانت الأُولى فيها مَعي، ولا همٌّ إلا حَملتهُ عنّي، ولا حديثٌ إلا تَشاركناهُ حتّى أنصافِ اللّيالي.
وجدتُّ فيها حنانَ الأختِ ودِفءَ الرّفيقةِ وأُنسَ الحَبيب، ما نَاديتُ إلا ولبَّى قلبَها لي، ولا ضاقَت إلا ويداها مُشرعتانِ في وَجهي، وهيَ تقولُ "فِداكِ فِداك!".
مع ذلِك كلّه، لم تَفتأ يومًا أن تُذكّرني بالرّحيل، وتَحرص أن أتخيّر بعنايةٍ من يأخُذ قُربها حين تَرتحلُ عن دُنيانا، فأُقاطِعُها وأقطَع عنها تِلك السّيرة، وأضحكُ وأنا أردّد عليها أنّنا قد نعيشُ تسعين عامًا أو يزيد، أتظلّين طيلة ذلك تُذكّرينني بمَن ستأخذُ مكانك عندي؟ ثمّ لمَ تفكّرين في ذلك أصلًا!
قبل يَومين زارَتني وأهلُها، بوجهٍ متهلّلٍ وملامِح قد حَفظتُها، بل وتحفُّها السّعادة، وأردّد عليها مُمازحةً أنّها قد ازدادَت جمالًا عن ذي قبل، فتردّ أنها تَشعُر ببدايةِ حُمّى، وكأنّها ستَمرضُ بها مرضًا لم تَره قبلها، في يومِها التّالي، أخذَت مكانَها في المُستشفى، قد استَفحل فيها داءُ الصّدر المُصابةِ به وانقطَع التّنفس.
حدَث كلّ ذلك سريعًا سريعًا جدًا، لدرجةِ أنّي لا أذكُر تفاصيل الحدَث، لكنّها سُرعان ما تأزّم حالُها، وانحدَرت صحّتُها، واختَفى صوتُها العَذب وافتَقدتُه كما افتَقدتُّها!
قبل قليلٍ كانت على اتّصالٍ معي، تكرّر كلماتِها الوداعيّة وتُوصي، وتقول أنّها مُتعبةٌ كما لم تتعب مِن قبل، ولأوّل مرّة لم أمتَلك قوّةً لأُقاطعها، ما عادَ بي من جُهدٍ، إن ابتلاني الله فيها!
ولأولِ مرّةٍ منذُ عرفتُها، أتألّم وليست مَعي لتُهوّن الأمر، وليست هُنا لتردّ على أيٍّ من رسائلِي إليها، أشعُر وكأنّ وَحشةً عجيبةً تملؤُ صَدري!