وقد اتهم أمل دنقل بالإلحاد على إثر قصيدة " كلمات سبارتكوس الأخيرة"؛ ولمن لا يعلم فأمل دنقل في شعره الحر هذا كان يستدعي شخصيات تاريخية للتعبير عن قضايا معاصرة، فاستعان بشخصية سبارتكوس وهو محارب قديم قاد ثورة العبيد الثالثة ضد ظلم القيصر، لكن نهايته آلت إلى الإعدام علنًا..
هنا في هذه القصيدة يتكلم دنقل على لسان سبارتكوس وهو على مشانق الموت، يستدعي الشيطان بوصفه رمزًا من رموز التمرد، على ظلم القيصر، أي أن سبارتكوس هنا استعار اسم الشيطان كناية عن الثورة والتمرد ضد الظلم، فهو هنا يمجد روحه التي ستزهق بعد قليل، ويواسي نفسه:
المجد للشيطان .. معبود الرياح
من قال " لا " في وجه من قالوا " نعم "
من علّم الإنسان تمزيق العدم
من قال " لا " .. فلم يمت ,
وظلّ روحا أبديّة الألم !
معلّق أنا على مشانق الصباح
و جبهتي بالموت محنيّة
لأنّني لم أحنها .. حيّه !
هذه الأبيات التي أخذها بعض الكتاب كسلاح ضد دنقل متهمينه بالكفر والزندقة، يتهمونه بتمجيد الشيطان، وهم في موقفهم يحتاج إلى إعادة نظر؛ إذ أنه لم يكن ملحدًا ، نعم لقد اخطأ دنقل وقال كلاما كفريا، وما كان له أن يستخدم ألفاظًا موهمة حتى لا يدخل في كفر العين ، لكن لا يمكن تفسير معنى الأبيات بمعزل عن فهم آليات النص الشعري، وأسلوب الشاعر الذي كان يميل كل الميل إلى الأدب الرمزي، واستدعاء شخصيات تاريخية ورمزية للتعبير عن آراء فلسفية وقضايا عميقة.
فهو مثلاً في قصيدته : " لا تُصالح" والتي كتبها للرئيس السادات قبل توقيعه لاتفاقية السلام مع إسرائيل، يستدعي شخصية تاريخية ويُجري الكلام على لسانها، وهي شخصية " كُليب "، يقول دنقل على لسان " كليب " وهو يوصي وصيته - التخيلية- الأخيرة
لأخيه الزير سالم، بعد أن تم طعنه، وقد سال دمه فكتب بدمه:
لا تصالحْ!
ولو منحوك الذهب
أترى حين أفقأ عينيك
ثم أثبت جوهرتين مكانهما..
هل ترى؟
هي أشياء لا تشترى
لا تصالح
ولو توَّجوك بتاج الإمارة
كيف تخطو على جثة ابن أبيكَ؟
وكيف تصير المليكَ
على أوجهِ البهجة المستعارة؟
هذه الاستعارات البديعة على لسان كُليب، والتي قصد بها دنقل الرفض التام للتصالح مع إسرائيل ، مذكرًا بأيديهم الملطخة بالدماء، وقد بدت شارات التطبيع في البزوغ، لكنه استخدم الأسلوب الرمزي باستعارة قصة تاريخية قديمة معروفة بحرب البسوس، مستدعيًا أحداث الماضي لتاريخ اليوم.
يقول د. عبد الله الهدلق في كتابه : " ميراث الصمت والملكوت":
"هذا المسكين الذي طغى لما ﴿ أَن رَّءَاهُ أَسْتَغْنَى) تقول عنه زوجته عبلة الرويني في كتابها "الجنوبي" يوم أصيب بالسرطان: «كانت الجراحة الأولى تعني لدينا الرعب الشديد، فهذه هي المرة الأولى التي نقف فيها في مواجهة السرطان.
وأنا أسير بجوار ( التروللي) الذي يحمل أمل إلى غرفة العمليات سمعته يتمتم بالشهادة: أشهد ألا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا رسول الله ..
ضحكت : أمل لقد ضبطتك متلبسا بالإيمان !
ابتسم في هدوء مرددًا في همس خافت: «أخشى ألا يؤثر في البنج" . نسي في كربته معبود الرياح الذي قال: لا، وتمتم ذليلا لربه : أن نعم، فالمجد الله ..."
تقول عبلة الرويني في حوار منشور بتاريخ 5 مارس 2024 على موقع الهيئة الوطنية للإعلام:
" أمل دنقل لم يكن ملحدًا فى يوم من الأيام، ولم يذكر مرة حكاية الإلحاد وليس للكلمة محلا من الإعراب فى قاموسه، صحيح أن طقوس الدين لم تكن فى صدارة اهتماماته، لكن هذا لا يعنى أنه كان بالضرورة منسلخا منه أو منكرا له".
وخلاصة الكلام عن تلك الشخصية المتمردة التي ثارت ضد كل شيء حتى أُطلق عليه أمير شعراء الرفض:
أولاً: وكما ذكرنا في الجزء الأول من المقال أنه في بداياته نشأ شأة دينية على يد والده، وأنه في صباه كان شديد التدين، لكن تلك النقلة الحادة في شخصيته كان لها أسباب، منها عدم تقبله لرحيل والده وأخته في سن صغير، وقراءاته المتعمقة في كتب الماركسيين والوجوديين القدماء مما أثر على نظرته للحياة والوجود، فأصبح حاد الطبع ، متقلب المزاج، عنيدًا عنيفًا وصلبًا كالجرانيت كما تقول زوجته. وخلُصنا من ذلك ، بأن الإنسان المسلم مأمور بألا يلج موارد الهلاك، فلا يلقي سمعه وبصره وأذنه للمواقع الكفرية، والشخصيات المعروفة بنقد الدين أو التراث.
ثانيًا: هناك فرق بين أن يكون المسلم عاصيًا لله، لا يلتزم بالنهج الديني القويم، وأن يكون ملحدًا يُنكر وجود الله بالكُليّة، فنحن هنا ننفي عن دنقل تهمة الإلحاد، ولا ننفي عنه تهمة العصيان.
ثالثًا: الإنسان مهما كان عاصيًا غير راضِ، لا يملك في لحظات الضعف الكبرى إلا أن تنفجر براكين فطرته فيلجأ لخالق الكون الإله الذي تألهه القلوب وتتوق إليه الأبصار.
رابعًا: ضرورة دراسة المسلم لأسماء الله وصفاته، وتعلم العقيدة الصحيحة، فيكون راضيًا بالقدر، متفهمًا لحكم الله العليم في خلقه وشئونهم.
نسأل الله أن يهدينا جميعًا سواء السبيل. و أن يكون الله قد شمله برحمته ولم يؤاخذه بما كتب، وأن يكون رزقه توبة قبل الممات.