لكنّ رواحل الأمة والمجتمعات مستعدون دومًا لدفع هذا الثمن مهما ارتفع، مستعدون لبذل أرواحهم رخيصةً في سبيل عدم تجردهم من هذه القيم العربية الإسلامية، التي يُعتبر من مات دونها شهيدًا.
فالنخوة هي الشعور بالمسؤولية تجاه الآخرين، والاندفاع لنصرتهم أو الدفاع عنهم عند الحاجة، وتتمثل في الاستجابة السريعة لنداء المظلوم، والغيرة على الحرمات، ونصرة الحق دون انتظار مقابل.
أما المروءة فهي التحلّي بالأخلاق السامية والأفعال النبيلة التي ترفع من مكانة الإنسان في المجتمع. وتشمل الأخلاق الحميدة في السلوك اليومي، وتجنّب الخِسّة والدناءة، وتتمثل في الوفاء بالعهد، وحسن التعامل مع الآخرين، والإيثار والتعفف.
والحمّية تعني الدفاع عن القيم والأفراد بدافعٍ من الشرف والكرامة. وتُعبّر عن التزام عميق بحماية المبادئ أو الأشخاص المرتبطين بالفرد، وتتجسد في حماية الأسرة والقبيلة، والغيرة على الوطن أو الدين، والرفض القاطع للذل والهوان.
أما الشجاعة فهي القدرة على مواجهة المخاطر والأهوال بصبرٍ وثبات، وتحمّل المسؤولية في الأوقات الصعبة. ومن ملامحها الإقدام في مواجهة الظلم، والصبر على المحن والشدائد، وعدم التراجع عن قول الحق.
ثم الحريّة، وهي قيمة إنسانية أساسية تعني قدرة الفرد على اتخاذ قراراته واختيار أفعاله بإرادته الحرة، دون إكراهٍ أو ضغطٍ خارجي، وهي ركيزة أساسية لتحقيق الكرامة الإنسانية.
أما الثمن في سبيل هذه الصفات فقد يكون ما بذله السوريّون أو الغزيّون: عشرات الآلاف من الشهداء، وبحورا من الدم، وأطنانا من الأشلاء.
أو ما بذله الأسرى الذين سيرون شروق الشمس مجددا بعد مرور أجمل سني حياتهم في غياهب السجون.
أسماء ستتحرر غدا؛ لمّا قرأتها بكيتُ من الفرحة، تذكرت وجوههم وتفاصيل يومهم ولغتهم ونبرة صوتهم، نخوتهم، مروءتهم، شجاعتهم في وجه سجانهم، رغم القيد، وما يزيد عن عشرين أو ثلاثين أو أربعين سنة في السجن، ذاقوا فيها ألوانا من العذاب الشديد، وويلات جسدية ونفسية يصعب عدّها.
بعضهم حين التقيته أول مرة كان يتعافى من كسورٍ في عظام قفصه الصدري، نتيجة القمع الذي تعرض له على يد سجانيه. آخرون عانوا عزلةً موحشةً امتدت لأكثر من ثلاث عشرة سنة في زنازين ضيقة، لا تعرف الشمس ولا الهواء. وفي زاوية أخرى من المشهد، هناك من تجاوز السبعين من عمره، وقد أمضى أكثر من نصف حياته خلف القضبان، محروما من أبسط حقوقه كإنسان.
ومع ذلك، ما بدّلوا وما هانوا وما ندموا. هؤلاء غدا، سيرون الشمس كما لم يروها منذ عقود؛ قرصا كاملا، دافئا، وحرّا. سيستقبلون الهواء النقي بوجوههم المثقلة بذكريات الأسر، وسيرون السماء منبسطةً دون شباكٍ وقضبان تقطع أوصالها. غدًا، يعانقون من بقي من أحبابهم، ويقرؤون الفاتحة على قبور من فقدوهم، بقلوب لم تعرف إلا الصبر والثبات.
فرحم الله غزة وناسها، وما بذلوه من ثمنٍ عظيم، لقاء الحفاظ على هذه الصفات التي انقرضت أو كادت بعد ثلاثين سنة من التدجين الممنهج والمستمر لعامة الناس.
نسأل الله تعالى أن يغفر لنا تقصيرنا وخذلاننا لناسنا وأهلنا وأحبابنا في غزة، وأن لا نكون ممن قال فيهم القرآن الكريم: "الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ...".
والحمد لله رب العالمين.