قال ابن القيم رحمه الله:
*اقتضى تمامُ الامتحان والابتلاء أنْ حبس عن رسوله الوحيَ شهرًا في شأنها لا يُوحَى إليه في ذلك شيءٌ؛ لتَتِمَّ حكمتُه التي قدَّرها وقضاها، وتظهرَ على أكمل الوجوه.*
- *ويزدادَ المؤمنون الصادقون إيمانًا وثباتًا على العدل والصدق وحسن الظن بالله ورسوله وأهل بيته والصدِّيقين من عباده.*
- *ويزدادَ المنافقون إفكًا ونفاقًا، ويظهرَ لرسول الله وللمؤمنين سرائرُهم.*
- *ولتَتِمَّ العبوديةُ المُرادةُ من الصدِّيقة وأبوَيْها، وتَتِمَّ نعمةُ الله عليهم،* ولتشتدَّ الفاقةُ والرغبةُ منها ومن أبويها، والافتقار إلى الله والذُّلُّ له وحسنُ الظن به والرجاءُ له.
- *ولينقطعَ رجاؤها من المخلوقين وتيأسَ من حصول النصر والفَرَج على يد أحدٍ من الخلق؛* ولهذا وَفَّتْ هذا المقامَ حقَّه لمَّا قال لها أبواها: قومي إليه ـ وقد أنزل الله عليه براءتها ـ فقالت: *"والله لا أقومُ إليه، ولا أحمدُ إلا الله، هو الذي أنزل براءتي".*
- وأيضًا: فكان من حكمة حبس الوحي شهرًا أن *القضية نضجَتْ وتمخَّضَتْ واستشرفَتْ قلوب المؤمنين أعظمَ استشرافٍ إلى ما يوحيه الله إلى رسوله فيها، وتطلَّعَتْ إلى ذلك غاية التطلُّع، فوافى الوحيُ أحوجَ ما كان إليه رسولُ الله ﷺ وأهلُ بيته والصدِّيقُ وأهلُه وأصحابُه والمؤمنون،* فورد عليهم ورودَ الغيث على الأرض أحوجَ ما كانت إليه، فوقع منهم أعظمَ موقعٍ وألطفَه، وسُرُّوا به أَتَمَّ السرور، وحصل لهم به غايةُ الهناء.
*ولو أطْلَعَ اللهُ رسولَه على حقيقة الحال من أول وَهْلَةٍ وأنزل الوحيَ على الفور بذلك لفاتَتْ هذه الحِكَمُ وأضعافُها بل أضعافُ أضعافِها.*
- وأيضًا: فإن *الله سبحانه أحَبَّ أن يُظهِرَ منزلةَ رسولِه وأهلِ بيتِه عندَه وكرامتَهم عليه، وأن يُخرِجَ رسولَه من هذه القضية ويتولَّى هو بنفسه الدفاعَ والمنافحةَ عنه والرَّدَّ على أعدائه وذمَّهم وعيبَهم* بأمرٍ لا يكون له فيه عملٌ ولا يُنسَبُ إليه، بل يكون هو وحدَه المُتولِّي لذلك الثائرَ لرسوله وأهل بيته.
- وأيضًا: *فإن رسول الله ﷺ كان هو المقصودَ بالأذى، والتي رُمِيَتْ زوجته، فلم يكن يَليقُ به أن يشهدَ ببراءتها مع علمِه أو ظنِّه المُقارِبِ للعلم ببراءتها،* ولم يَظُنَّ بها سُوءًا قطُّ ـ وحاشاه وحاشاها ـ؛ ولذلك لما استعذَرَ من أهل الإفك قال: *«مَن يَعذُرُني مِن رجلٍ بلغني أذاه في أهلي، والله ما علمتُ على أهلي إلا خيرًا، ولقد ذكروا رجلًا ما علمتُ عليه إلا خيرًا، وما كان يدخل على أهلي إلا معي»،* وكان عنده من القرائن التي تشهد ببراءة الصدِّيقة أكثرُ مما عند المؤمنين، ولكن لكمال صبرِه وثباتِه ورِفقِه وحسنِ ظنِّه بربه وثقتِه به: وَفَّى مقامَ الصبرِ والثباتِ وحسنِ الظنِّ بالله حقَّه، حتى جاءه الوحيُ بما أقَرَّ عينه وسَرَّ قلبَه وعَظَّمَ قدرَه، وظهر لأمته احتفاءُ ربِّه به واعتناؤُه بشأنه.
زاد المعاد (٣ / ٣٠٤ - ٣٠٦).
#ابن_القيم