يحكي العطر فصلاً من قصتنا مع الحياة، عندما يختار أحدنا الرائحة التي سترافقه طوال يومه فإنّ ذلك كنايةٌ عن الأسلوب الذي يرغب في أن يلاحظه الآخرون، سواء أكان يبحث عن الأناقة أو الجرأة أو العفوية.
تشكّل النفحة الأولى من عطرنا المفضّل في الصباح جزءاً حيوياً من هويتنا الشخصيّة، وهذه الهوية الحسيّة تلازمنا حتى تصير مُعرّفاً أساسياً لشخوصنا؛ وهذا ما ركّز عليه الروائي الكبير "باتريك زوسكيند" في هذه الرواية بما يمكن عدّه فتحاً في العوالم الروائية إذ لا أذكر أن سبق أحدٌ "زوسكيند" بهذا الفتح الأدبي البديع..
إذاً، تتمحور ثيمة هذه الرواية حول العطر، من خلال سردٍ فلسفيٍّ ممتعٍ وعميق، حيث يأخذنا "زوسكيند" إلى أزقة باريس في القرن الثامن عشر، وهناك تتشابك الروائح والمشاعر في نسيجٍ معقّدٍ من الحساسيّة والكآبة. يعكس بطل الرواية "غرينوي" شخصية تائهة وُلدت في أقذر أحياء باريس، وهناك يتخلّى عنه الجميع حتى أمه التي ولدته، زهداً به، أو كرهاً له، أو خوفاً من طباعه الغرائبية، كونه يمتلك حاسة شمٍّ قوية بشكلٍ مُعجز لم يسبق لأحدٍ أن امتلكها، فيصير وحاله هذه يبحث عن معنى وجوده في عالم لا يرحم، فيقرّر أن يصنع لنفسه العطر الأكثر تميزاً، معتقداً أنه سيمنحه الحبّ الذي طالما افتقده. وسيزرع في قلوب كل من يشمّ هذا الأريج النادر حبّاً له وقبولاً لصاحبه؛ وهكذا يتفتّق ذهن "غرينوي" عن أغرب وسيلةٍ لصنع عطره السحريّ الخاص وهو تقطير أجساد جميلات فرنسا بدلاً من تقطير الأزاهير ذوات العبير!!
ما يضفي على هذه الرواية طابعها العاطفي هو التناقض بين نقاء الطموح وبشاعة الوسائل التي يلجأ إليها بطل الرواية "غرينوي" لتحقيق حلمه. يُظهِر الكاتب من خلال شخصيّة بطله كيف يمكن أن تؤدي العزلة واليأس إلى مساراتٍ مظلمة، مستخدماً أسلوباً عاطفيّاً يدفع القارئ لتقبّل بطل الرواية والتفاعل الإيجابي معه رغم كونه قاتلاً متسلسلاً، ويبرع الكاتب بجعل حاسة الشم محركاً أساسيّاً للأحداث والمشاعر وتحديد هويّة الإنسان.
منذ القدم، كان العطر جزءاً لا يتجزأ من حياة البشر. فقد استخدمت الحضارات القديمة مثل المصريين والهنود القدماء العطور وأنواع مختلفة من البخور في الطقوس الدينية والاحتفالات، معتقدين أنها تصل بهم إلى الآلهة وتساعد في بناء جسر بين العالم الفاني والعالم الإلهي. كان العطر جزءاً من الحكايا والتقاليد، ينسج القصص بين الماضي والحاضر ويخلّد الروح الإنسانية في عبير الزهور والعبق الذي يملأ الأجواء. وهنا ويلمّح الكاتب عَرَضَاً أنّ فرعون لما استعبد النّاس كان ذلك بفعل عطرٍ سحريٍّ يجعل كلّ من يستنشق هذا الشميم النادر يُسحر بصاحبه ويخضع له مستسلماً!
نهاية الرواية صادمة وغير متوقعة، وتُبرز مدى تعطّش الناس، وخاصةً في البيئات المستقذرة، إلى شذا الزهور وريّا الرياحين وهنا يختصر الكاتب غرضه من الرواية ليقول مامعناه بأنّ الحياة رائحة، وهي قصيدةٌ مكتوبةٌ في الهواء نقرؤها بشهيقنا، وكلنا متعطّشٌ إلى رائحةٍ طيبةٍ، فإن وجدناها فكأنما وجدنا ذواتنا، إنها امتدادٌ لكياننا وللغات قلوبنا، تشكّل بها لوحات من المشاعر وتؤكد لنا بأنّ روائح أجسامنا جزءٌ لا يتجزّأ من هذه الحكاية العطرة.
☆ هامش: للرواية فيلمٌ مقتبسٌ عنها، وهو فيلم يستحق عشرة نجوم، لكنّه لايشكّل شيئاً أمام عظمة الرواية، فإن استطعت أن تقرأ الرواية قبل مشاهدة الفيلم فافعل.
☆ مقتبس من الرواية:
“بوسع البشر أن يغمضوا أعينهم أمام ما هو عظيم أو جميل، وأن يغلقوا آذانهم أمام الألحان والكلام المعسول ولكن ليس بوسعهم الهروب من العبق لأنه شقيق الشهيق، معه يدخل إلى ذواتهم، ولا يستطيعون صدّه إن رغبوا بالبقاء على قيد الحياة، إنه يدخل إلى أعماقهم، إلى القلب مباشرة، حيث يتم الفصل الحاسم بين الميل إليه أو احتقاره، بين القرف منه أو الرغبة فيه، بين حبه أو كرهه.”
• العطر، قصة قاتل
• باتريك زوسكيند
• ترجمة: نبيل الحفّار
• دار المدى للنشر
• الطبعة الرابعة 2007.
• 288 صفحة.