في زاويةٍ هادئة، حيثُ لا صوت سوى صدى الأفكار، وعبقُ القهوةِ العتيقةِ يملأُ الأجواء، استقرَّ فنجانٌ نصفُ ممتلئٍ، نصفُ فارغ، مثلما كانت الروحُ بين الحيرةِ واليقين، والورقةُ البيضاءُ، بصمتِها تحدّقُ في القلمِ المستلقي بإهمال، وكأنها تنتظرُ منه أن يحرّك سكونها، أن يزرعَ على سطحها كلماتٍ تشبهُ المطرَ الأول، نقيّةً، صادقةً، تروي ظمأها للحكايات ولكن!
أيُّ حكايةٍ تستحقُّ أن تُكتبَ اليوم؟ أهي ذكرياتٌ تسلّلت مع نكهةِ القهوةِ المُرّة، أم أفكارٌ مبعثرةٌ تبحثُ عن ترتيبٍ في سطورٍ مرتّبة؟ الفنجانُ يراقبُ، وكأنه يعرفُ أن بعض الكلماتِ لا تحتاجُ إلى ورق، بل تذوبُ في مرارةِ القهوة، في رشفاتٍ تحملُ أسراراً لا تُقال، لحظةٌ ثقيلةٌ تمرّ، ثم تنهضُ اليدُ أخيراً، تلتقطُ القلم، تُحركهُ بين الأصابعِ ببطء، قبلَ أن يلامسَ الورق. نقطةُ الحبرِ الأولى تسقطُ، كأنها شهقةُ البداية، كأنها الخطوةُ الأولى في دربٍ طويلٍ من البوح.