حين تنظر الأوطان بعيني التاريخ، وترى الشعوب من خلف غبار الحقب المتراكم، يعلو السؤال كبرقٍ يقدح في الظلام: أي جنونٍ هذا الذي يجعل الأرض تُختزل في مسمى "اكتشاف"؟! وكيف يُقال عن وطنٍ نابض بالحياة إنه وُجد صدفة، كجزيرةٍ طافية في بحر التيه،؟! تلك الحكايات الساذجة التي تبرر اغتصاب الأرض باسم الحضارة، ليست سوى خدعة عفى عليها الزمن، هي محض أوهام ولدت في عقولٍ أشرأبت نحو الهيمنة، وانطفأت بؤرها في زوايا العار.
أن تُعامَل الشعوب الأصيلة كأنها صدىً باهت لبدائية مندثرة، كأنها مخلفات رحلةٍ غابرة في سلم التطور الإنساني، فهذا ذروة الاستعلاء وغرور العدم. الشعوب ليست أحافير تُطمس، ولا كائنات عابرة تُستباح. هي أرواحٌ ضاربة بجذورها في تربة المجد، حكاياتٌ محفورة في صخور الأرض وذاكرة السماء. ما كان يُمارس في القرون الغابرة من تبرير إبادة الآخر باسم الحضارة، لم يعد إلا صفحة سوداء يفرّ منها التاريخ الحديث بخجل.
أنتم الآن تقفون في القرن الحادي والعشرين، حيث تشرق شمس الوعي بلا حجاب، وحيث ذاكرة الشعوب تحرسها عيون الكاميرات وأقلام التوثيق. هذا الزمن ليس امتدادًا لعصورٍ ظننتُم فيها أن الأرض لعبةٌ تُوزَّع، والشعوب أحجارٌ تُزاح من الطريق.
فلسطين ليست نيوزيلندا التي استباحتها أحلام الأوروبيين البيضاء، ولا أستراليا التي دفنوا شعوبها الأصلية في صمتٍ قاتل. فلسطين ليست قارة جديدة تنتظر مغامرًا يزرع فيها أعلامه، ولا غنيمة سهلة تُغلفها أساطير الغزو. فلسطين هي جوهر الروح العربية، قبلة الأديان، وصوت الحق الذي لا يُقهر. هي أرض الأنبياء، ومهد الإيمان، ومعقل الكرامة التي لا تُساوم.
الفلسطينيون ليسوا قطعانًا مشتتة في براري التاريخ، ولا شعوبًا بدائية تنتظر طمسها. هم أمةٌ متجذرة، تربطهم بأرضهم علاقة أعمق من الجغرافيا، وأقدس من الحدود. هم أبناء الحضارة، وأحفاد القِبلة الأولى، ومؤمنون يواجهون آلة الطغيان بجسارةٍ تثير خشية العالم. يحملون في صدورهم قوةً تتجاوز كل معادلات القوة المادية، وتنسج حكاية لا تنكسر تحت أي ظرف.
أما مشروعكم الاستيطاني في فلسطين، فهو محاولة بائسة لتكرار تجربةٍ ماتت في أحشاء التاريخ. لكنه، هذه المرة، يقف عاجزًا أمام أرضٍ ليست كأي أرض، وشعبٍ ليس كأي شعب. أنتم تحاولون إعادة كتابة روايات الماضي، لكنكم تواجهون نصًا مختلفًا، نقشته دماء الفلسطينيين على صفحات مجدهم. هنا، تتصادم أوهام الاستعمار مع حقيقة راسخة كالجبل: فلسطين ليست فراغًا ينتظر أن يُملأ، وليست مسرحًا لأحلامكم التي تساقطت كأوراق الخريف.
هل جهلتم أن هذه الأرض لا تعرف الخنوع؟ أن كل حبة رمل فيها تحمل إرث الأنبياء، وكل زيتونة فيها تشهد على عزيمة أمة لا تُكسر؟ الفلسطينيون ليسوا كما تصورتم؛ ليسوا كأولئك الشعوب التي خنقتموها في الماضي تحت وطأة الاستيطان والإبادة.
هؤلاء ليسوا الماوري في نيوزيلندا، ولا الأبورجيين في أستراليا، ولا سكان أمريكا الأصليين الذين طمستمهم بلا شهود. الفلسطينيون شعبٌ ينهض من الرماد كطائر الفينيق، كلما حاولتم كسره، عاد أقوى وأصلب.أنتم تواجهون شعبًا لا يُقاس بالعدد أو القوة العسكرية. إنهم يملكون إيمانًا يتجاوز الماديات، يجعلهم يقفون أمام آلات الحرب بصدورٍ عارية، وقلوبٍ لا تعرف الخوف. إنهم يملكون إرادةً تتحدى كل قوانين الأرض، لأنهم يؤمنون أن أرضهم ليست مجرد تراب، بل شرفٌ لا يُباع، وحياة لا تُوهب لغيرهم.
مشروعكم هذا، مهما حاولتم أن تدعموه بالجبروت، سيظل عاجزًا عن كسر إرادة هذا الشعب. أنتم تحفرون في صخرةٍ لا تنكسر. هذا الشعب الذي ظننتم أنه سيموت تحت القصف أو يتلاشى تحت الحصار، يُعيد صياغة التاريخ أمام أعينكم، ليقول لكم: فلسطين ليست للبيع، وليست للاستيطان، وليست لسراب أحلامكم.
وكل مجازركم، كل وحشيتكم، كل إجرامكم الذي أطلقتم له العنان في الأرض الفلسطينية، ليس إلا امتدادًا لإرثكم الدموي، ولحقدٍ استعماري قديم. لكن الزمن تغيّر. في الماضي، كانت الإبادات تُنفَّذ في الظل، بلا شهود، بلا عدسات تُوثق، بلا أصوات تفضح. أما اليوم، فإن جرائمكم تُكشف للعالم، تُفضح أمام البشرية جمعاء، وتُسجل في ذاكرة الإنسانية كوصمة عار لن تُمحى.
ومع ذلك، مهما بلغ طغيانكم، ومهما تفننتم في الظلم، فلن تتمكنوا من اقتلاع الفلسطيني من أرضه. هذه الأرض ليست مجرد رقعة جغرافية، بل هي جزء من أرواحهم، تمتزج بدمائهم، وتتجسد في قلوبهم. لن يتركوا أرضهم ولو احترق العالم من حولهم. لن يتخلوا عن حقهم ولو انطبقت السماء على الأرض.
أنتم في المكان الخطأ، في الزمان الخطأ، وأمام الشعب الخطأ. فلا خيار أمامكم إلا الاعتراف بالهزيمة والعودة من حيث أتيتم.
ستفشلون، وستنسحبون، وسيتبقى الشعب الفلسطيني كما كان دائمًا: قويًا كالشمس، ثابتًا كالأرض، خالدًا كالتاريخ.
#بسام_شانع