كنتُ أنتظر اللحظة المثالية التي تهبني شعورا غامرًا، وعندما استبطأتُها حاولت القفز إلى حلمي وفكّرتُ كيف يمكنني استباق تلك اللحظة بأن أنسجها بخيالي وأعيشها ألف مرة قبل أن تحدث!
قبل سنوات طويلة.. كنت ألعب بالعرائس.. واليوم ألعب مع عرائسي الحقيقة..
قبل أن أجرب الأمومة كنتُ أرقب المشهد المتكرر: أن تخرج الروح وتتلقفها أيدي الأحبة، وضمنًا لا يَسمح هذا المشهد للأم أن تعيش اللحظة في أجمل أربعين يومًا حيث الرابطة الأولى، لأنها في غيبوبة من آلامها ثم رحلة استقبال الناس بالتكلّف في الملبس والهدايا ولا تكاد تهنأ بالروح التي صنعها الله وأخرجها من الضيق إلى السعة بين يدي أنثى تُصنَع أمًّا.
في ذكريات طفلي الأصغر قبل خمس سنوات تعجبتْ أمي إذ أخبرتُها أنني هذه المرة لا أود أن أستقبل زيارات في أول يومين، إنني أزور نفسي وأكتشف الروح الجديدة التي وهبنيها الله ، أتحسس وجهًا جديدًا عاش يشوقني تسعة أشهر بركلاته، بينما أتشظّى حنينًا واشتياقًا، وها هو يعلن حضوره المدهش لينضمّ إلى عالمي ويلتصق فيه إلى الأبد، فأحتاج إلى عزلة مع إحساسي السرّي الفريد.
الأربع والعشرون ساعة الأولى هي عشق لا ينتهي؛ تُخبر فيها المستشفيات العالمية بالقاعدة العاطفية العلاجية لمعاناة تلك الروح الوليدة من الغربة بعد بيئة الرحم الدافئة: "skin to skin” آلية الملامسة بالذات في الساعة الذهبية الأولى من خروج المولود، وهي سحر الاستشفاء للأم وطفلها على حد سواء طوال مدة الرضاع.
في كل ولادة تقطع الطبيبة الحبل السري بين المولود وأمه تكون اللحظة التي يُقطع حِسًّا ويبدأ معنى، يُتمّ تعلّقه من الجسد إلى القلب.
بيننا كنتُ ولازلتُ باحثة عن جهة أعمل فيها، وتعمل فيّ، تهبني وأهبها إسعادا ويؤدم بيننا، فلم أخجل يومًا عندما أُسأل: ألم تتوظفي بعد!
أن أجيب -كأي أم-: حتى تجيئ الوظيفة المنتظرة وأثناءها وبعدها. فأنا موظفة في بيتي، براتب معنوي عالٍ في الدنيا والآخرة إن شاء الله.
وعسى أن تُقدّر هذه الأمانة بحقها ويُحرَس الثغر كما ينبغي.
لا أظن أنّ هناك من لا يستطيع إكمال البيت:
الأمّ مدرسةٌ...
إذا أعددتها..
أعددتَ شعبًا طيب الأعراقِ
ماذا عن إعداد الأم؟
لم توجد بعد وظيفة في العالم توازي أمًّا لا تكلّ في خدمة أسرتها خدمة أرواح لا أجساد، تربية لا تغذية، وتحديدًا في زمان تعلو فيه الشكاية من فوضى الأدوار ؛
الكلّ محترق نفسيًّا..وظيفيًّا، ينسحب من إتمام دوره، غالبنا يريد منطقة الراحة، حيث لا شيء إلا سماع صوت الذات ، الأنا، وهي تأمر والجوارح تنصت، فلا أرى من المناسب أن تشعر الأم بوقت فراغ، لا يوجد فراغ، كل جزيئات الثانية ممتلئة، البركة وحدها هي التي تمدد الوقت حتى يحصل الأبناء على حظّهم من العناية والاهتمام، ثم تجد الأم أنّ جزءا من تغذيتها في وجودهم حولها، فإن كان ثمة فراغ بعد ذلك فهو حتى تملأ رئتيها بالهواء النقي لتُكمل الوظيفة.
من يريد أن يقنع الأم أنّ إنجازاتها الفردية هي السعادة فهذا وهم ومن هنا تخلخلت البيوت وتهاوت مفاهيم الإنجاز وتعطلت العطاءات المتعدية التي هي مسؤولية إجبارية لا اختيارية؛ إذا صارت الأنثى زوجة وأمًّا وجدت إنجازها في نظرة زوج ممتن وفي برّ أبناء حانين، وقد لا يتحقق ذلك بغير إنفاق وقتها طوعًا وكرهًا، وليس كل واجب يُشتهى "فاعبده واصطبر لعبادته".
ربما لن أبالغ إذا قلت أنّ دور الأم تضاعف كثيرًا عمّا كان، وعليها أن تفتح عينيها جيدًا صوب كل اتجاه وتحصّن المداخل على أبنائها، فالأم قبل سنوات كانت تعتمد على معلم ومنهج وقدوة يدعو الناس إلى الخير، لكنها فجأة أبصرت نفسها في تحدي أن تكون هي المنهج والمعلم والقدوة وألّا تعوّل على أحد، وتلمّ بكل جديد وتكون الطبيب النفسي، وأن تلملم نفسها عند كل انكسار فالأعين متشبثة بها.
تطمح غدًا إذا لفّ ابنها شماغه حول رأسه كبيرًا، لفّ بإحكامٍ داخل خلاياه أفكارًا سامية؛ فلم يكن سفنجة ولا إمعة، ألّا يجلس على منصب يحرّك المال فيه قيَمه، فيتبنى الإرجاف ويتخلّى عن دينه ليملأ جيبه!
مشهد النازحين والمشردين من أوطانهم حولنا لابد أن يكون لنا معه وقفة، بما يتناسب مع العمر والنضج، أما تغييبهم عن الواقع فسيكبرون دون أن يجدوا من ينقل الحقيقة التي عشناها وشربناها في الإذاعة المدرسية والمسرح وموضوع التعبير، ولن تُدفن.
.
.
الحبل "السُرّي"..
هو الحبل "السِّري" بين كل أم وأبنائها.
فيا أيتها السرّ.. والوطن، وثغر الأسرة الباسم
هنيئًا لك..
#خاطرة
https://t.me/Sha6eAlraghad