إنّ لله ملائكة يطوفون في الطرق، يلتمسون أهل الذِّكْر، فإذا وجدوا قَوْماً يذكرون الله، تنادوا: هلموا إلى حاجتكم؛ قال: فيحفونهم بِأجنحتهم إلى السّماء الدنيا.
تستنهض رجالها وأبطالها ونساءها وشبابها، وتبعث فيهم روحًا على جَرحها، وتصرخ بهم ألّا تعتادوا، ولا تبتعدوا، ولا تتركوا ثغوركم، ولا تكونوا عاديّين في زمنٍ ينتهك فيه البُغاة حِصنَكم، ويهدِمون أمنَكم، ويخترقون صدوركم، ويسرقون حقّكم، لا تسمحوا ليومٍ أن يَمُرَّ دون عبادةٍ وزيادة، دون دعاءٍ وسجود، دون إنجازٍ وغرس، دون صدقٍ وإخلاصٍ وأُمّة
لا تَسلِبكم الرّاحة لذّة التَّعَب، ولا تأخذكم الدّنيا عن الآخرة، ولا تُرَبّوا في أعماق قلوبكم إلّا مؤمنًا قويًّا يجتهد لله ألف مرّة، ويحمل نفسه على ما فيها من ألم، ويسير للآخرة كأنّه يراها في كلّ شيء، ويجتهد على تقصيره، ويقترب على ابتعاده، ويُحاول على تَعَثُّره، يمسح الدَّمع في ميدان العمل
آآهٍ يا قلب، كم حُرقةٍ تسكُن فيك فلا تَسكُن، وتختبئ في ثناياك أُمّة تُشعِلُك، وفي كُلّ حجرةٍ منك مُحاوَلة، وتَحمِلُ دَمًا يهون لله، ونبضًا يخُلص خُطاه، وشهـ.ادةً ترجوها اليوم قبل غدًا، وثغرًا تأخُذه بقوّةٍ كأنّه أَمَلُك الوحيد، ورسالةً تَحمِلُها لأُمّةٍ تُحِبُّها، إمّا أن تغرسها عُمقًا، أو تموت على الطّريق..
إن من أعظم معالم التوفيق: حبك للقرآن الكريم، والعيش معه، وتلاوته آناء الليل وأطراف النهار، والعمل به والدعوة إليه، ودعمه وتشجيعه. القرآن الذي ما أُعطي حقه وقدره في هذا الزمان {إِنَّ هَـذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا} [الإسراء: 9]. أيها الموفق تأمل في هذا الأجر الكبير: عن عقبة بن عامر : خرج رسول الله ونحن في الصفة فقال: «أيكم يحب أن يغدو كل يوم إلى بطحان أو إلى العقيق فيأتي منه بناقتين كوماوين في غير إثم ولا قطيعة رحم؟» فقلنا: يا رسول الله نحب ذلك. قال: «أفلا يغدو أحدكم إلى المسجد فيعلم، أو يقرأ آيتين من كتاب الله خيرٌ له من ناقتين، وثلاث خيرٌ له من ثلاث، وأربع خيرٌ له من أربع ومن أعدادهن من الإبل». [صحيح مسلم]. الله أكبر ولله الحمد! كم تستغرق هذه الآيات من دقائق معدودة، فترى العبد الموفق مثلا بعد صلاة الفجر أو العصر يجلس في مسجده ولو لعشر دقائق يقرأ ويتدبر في كتاب ربه ومولاه، يحرك قلبه ويستجيش مشاعره، يجمع من الحسنات آناء الليل وأطراف النهار، يستزيد منه رحمة وهدى وشفاء وتوفيقا. تأمل أيها الموفق: عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله : «من قرأ حرفًا من كتاب الله فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول ألم حرف ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف». [رواه الترمذي (2910)، وقال حديث صحيح]. إنه القرآن الكريم! أعظم كتاب نزل من السماء {وَبِالْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} [الإسراء: 105]. قال بعض السلف: «القرآن ثقيل لا يقدر أن يحمله إلا قلب مؤيد بالتوفيق مزين بالتوحيد». ألم يقل ربنا: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا} [المزمل: 5]؟ يقول الصحابي الجليل أبو هريرة : «البيت الذي يتلى فيه كتاب الله كثر خيره، وحضرته الملائكة، وخرجت منه الشياطين، والبيت الذي لا يتلى فيه كتاب الله ضاق بأهله، وقل خيره، وحضرته الشياطين، وخرجت منه الملائكة». ا.هـ. {قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَـذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء: 88]. ويهتف الشيخ صالح المغامسي حفظه الله قائلاً: «لا يُرام صلاح قلب وإصلاح نفس إلا بالقرآن، ولا يقام ليل حق القيام إلا بالقرآن، ولا يوجد كتاب قرأته كنت أقرب إلى ربك أعظم من القرآن، ولا شفاء لأرواح الموحدين وقلوب العابدين إلا بالقرآن». ا.هـ. أخي الموفق: تأمل في هذه الآية التي تهز قلب المؤمن وتزيده إيمانا وحبا وإقبالا على كتاب ربه: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [العنكبوت: 51]. أيها الموفق: أكثر من قراءة كتاب ربك الكريم، ليلًا ونهارًا، ابدأ يومك بالقرآن واختم يومك بالقرآن، واجعل لك وردًّا لا يفوتك أبدًا بإذن الله، اجعل لك محفوظًا يوميًا ولو آية واحدة من كتاب الله، تزيد بها إيمانك، إن العجز كل العجز من عجز عن حفظ ودراسة وتفسير آية واحدة فقط، ابذل الجهد، فرّغ نفسك، لا يمر عليك يوم إلا وقد قرأت فيه القرآن، اجعل بجوارك تفسيرًا ميسرًا، تطالع فيه ما لا تعرفه وتجهله، مع الاجتهاد في العمل به، والدعوة إليه، فإن هذا هو طريق الموفقين. إضاءة على الطريق: كتاب الله بين يديك. فماذا أعطيته من جهد ووقت وتلاوة وتدبر وعمل واستجابة؟ أجب على نفسك بكل صراحة
كلّ مشاعرك واعتصار قلبك وألمك على أُمّتك، يجب أن ينتقل إلى تفاصيل أيّامك، ويؤثّر على تحسين عبادتك، وإنجازك، ومهامك، وأن يدفعك دفعًا للعمل، للدّعوة، للثّبات، وأن يخترق جزءًا من فتورك وفراغك، الألم يستحيل عملًا يُحييك، وإلّا نحن أسرىٰ مشاعرنا، رهائن عجزنا، تَمنَعُنا المشاهدة عن المشاركة!
تقرأ فيها رقمًا يدلّ على أعداد الشهداء، اشعر بِكُلّك أن كل رقم هو شخص، يحمل اسمًا، وملامح، وأحبة، وأن هناك تاريخ لهذا الإنسان، وأنه ترك ودائع خير، وضحكات وذكريات بديعة في العالم الذي سكنه!
هو سائر طريقه مُعبّد إلى الجنة، تذكر في كل مرة لا تفعل فيها شيئًا، ولا تنتفض، ولا تنصب قامتك في محرابك تدعو، ولا تحمل هذا الهم بين جنبيك، في كل مرة تقبل فيها على ذنب، ويكون في متناول يدك فعل شيء وتتخاذل عنه، ففي الحقيقة أنت خائن كبير، وهذه الأحداث وصمة عار في سجل حياتك.
اللهم مكنّا وأعدّنا وهيئنا لخوض غمار تحبها، واكتب لنا توبة تقطع عنا الإصرار وتجعلنا في زمرة الأبرار، ونعوذ بك أشد العوذ، أن تكِلنا إلى أنفسنا، ونعوذ بك أشد العوذ، من ذنب هنا يؤخر النصر هناك، هيئنا، عبدنا ، مكّننا، لا تجعل أعظم حولنا كثرة الحديث، ولكن صدق الطلب والإقبال..
توفنا مسلمين محاولين مسددين مقاربين، نعوذ بك من الخذلان يا رب، نعوذ بك من النفاق يا الله..لا تكلنا إلى أنفسنا..
وعليك بهم، كل من عطّل نصرتنا لأهلنا، أرنا فيهم يومًا أسودًا، وأدخلهم جهنم خالدين فيها أبدا أبدا.
حسبنا الله ونعم الوكيل والله لا تهون هذه الدماء عند الله والله لا تهون!