وفي الطريق، رأى الناس تمشي على غير عاداتها، بهدوءٍ وسكينةٍ وأدب!
سأل الأعرابي أحدهم: ما بال هؤلاء؟
أجابوه: لقد دعا الخليفة ليومٍ مميزٍ في قصره، وفتح بابه لطوائف العلماء والشعراء لزيارته، وما من حاضر في مجلسه إلا وينال شيء من عطاء الخليفة، خااااصةّ الشعراء والأدباء.
هنا لمعت فكرةٌ في عقل الأعرابيّ، وتذكّرَ أنه قد أوتيَ موهبةَ نظم الشِّعرِ، وحالهُ من الفقر يستدعيه استحضار شيطان الشِّعر (كما يُقال)، علّه يُنقذُ حالهُ من فقره.
فقرر أن يذهب للقصر مع الذاهبين ويُدلي بدلوه بينهم، (حاملاً جرّةَ الماء معه).
وحين وصل القصر، كانت حصة الشعراء والمتحدثين قد أوشكت على الإنتهاء، وقد نال الشعراء أعطياتهم من الخليفة، كلٌّ حسب اجتهاده.
طلب الأعرابي دوراً، ولم يكن قد أعد لذلك المقام عُدّته، فخاطبه الخليفة ضاحكاً: هاتِ لِنرَ ماذا عند صاحب الجرة! وضحك الحضور جميعاً
أجاب الأعرابي، وقد سكت الحضور ينظرون إلى ما سيقوله:
ولمَّا رأيتُ النّاس شدّوا رحالهم
إلى بَحرك الطَّامي أتيتُ بجرّتي
فسرَّ الخليفة بقوله، وأعجبته فطنة الرجل رغم أنه بيتُ شعرٍ واحد!! فقال الخليفة: املأوا له جرّته مالاً.
خرج الأعرابيّ من قصر الخليفة مسروراً، وكان كلما رأى فقيراً في طريقه جاد له ببعضٍ من المال الذي ناله، إلا أن أحداً من الشعراء الحُسّاد تبعه مترقباً ما سيصنع بكلّ ذلك المال! فأسرع عائداً لقصر الخليفة يشي به، ويقول: لقد خرج الرجل الأعرابي بما نال من كرمك وعطاءك مزهواً بنفسه، فصار يوزع الصدقات على المحتاجين في الطريق وكأنه هو الخليفة، وصاحب كل ذلك المال!!
استدعاه الخليفة ليسمع منه، وقال له: هل وضعت نفسك بمنزلتي أيها الرجل؟ وأخذت تتصدق على الناس وكأنك صاحب الفضل!!
قال الأعرابي: أيها الخليفة الهُمام
يجودُ علينا الخيِّرون بمالهم
ونحنُ بمالِ الخيِّرينَ نجودُ
فأعجب الخليفةُ بجوابه، وأمر أن تُملأ جرّته بالمال للمرّة الثانية.
ازداد غيظُ الشعراء ( الحسّاد) من الرجل، وبينما كانت الجرة تُملأ بالذهب للمرة الثانية، إذا بدينارٍ يسقطُ خارج الجرّة.
فإذا بالأعرابيّ يتبع ذلك الدينار بسرعة خاطفة ويلتقطه.
اقترب أحدهم من الخليفة وقال: أرأيتم يا سيدي ما أشدَّ جشع هذا الرجل؟
لقد ملأتها له مالاً مرتين، وما زال يجري وراء ذلك الدينار!!
التفت إليه الخليفة وقال: يا رجل! ما رأيت أشدَّ من جشعك قط!
أجابه الأعرابي: يا مولاي، ما جريتُ وراءه طمعاً ولا جشعاً، ولكنّي خشيت أن تمرَّ إحدى حاشياتِ القصر من هنا، وعن غير قصدٍ تدوس على الدينار وفيه لفظُ الجلالة على وجهٍ، واسمكم منقوشٌ على الوجه الآخر للدنانير.
فقال الخليفة إملأوا لهذا الرجل جرّته ثلاث مرات، وأكرموه فقد وجبَ إكرامه.
العبرة: ربما تعصفُ الدنيا بالإنسان فيفتقرُ بعد غنى، أو يمرّ بأزماتٍ خانقات، وهنا علينا جميعاً أن نفكّر في الخطة ب، بمعنى أنّ هذا الأعرابي الفقير استطاع بفضل موهبةٍ مدفونةٍ ألا وهي الشعر، أن يُعيد الحياة لبيته، وأن يُنقذ نفسه من فقرٍ نزل به! وقد كان بالفعل.
الأمر الثاني: أن نتذكر أن للنجاح حُسّادٌ دوماً، ولكن طالما أن الإنسان عرفَ طريقهُ ومضى به وهو يرفع رأسه، فلا يلتفت للحُسّاد ولا الحاقدين، فهؤلاء يضعون العصيّ في العجلات ليوقفوا أي نجاحٍ محتمل لأي إنسانٍ مهما كان.