هناك طريقتان لتدمير الناس وتجفيف المعنى في حياتهم:
أولًا: طريقة المستبدين والمحتلين في قتل البشر وإيذائهم جسديًا وسجنهم سنوات طويلة، وقد عبّر عن هذه الطريقة "جورج أورويل" في روايته "مزرعة الحيوان" وروايته "1984".
ثانيًا: طريقة الرومان، وهي الخبز والسيرك Bread and Circuses حيث كانوا يشغلون الناس عن الظلم والقهر والعبودية بالحفلات والألعاب والسيرك وقتال الحيوانات مع بعضها، وقد نجحت هذه الطريقة في تخدير الناس وشغلهم عن الشأن العام لسنين، وقد استعار هذه الطريقة "ألدوس هكسلي" في روايته "عالم جديد شجاع"، حيث تنبأ بأثر التقنية والرفاهية الزائفة في صناعة استقرار زائف.
هناك دول كثيرة تطبق الطريقتين معًا اليوم، تُغرق بعض الناس في رفاهية زائفة وإن كانوا فقراء لا يملكون إلا قليلًا من المال (الفقير سيصبح سعيه كله وراء حضور حفلة غنائية أو اقتناء جهاز جديد أو مشاهدة برامج ممتعة تنسيه واقعه) وتزجّ الباقين في السجون.
في عالم الرفاهية الزائفة الدمار المعنوي والنفسي والأخلاقي لا يأتي من سجان يضرب ويشتم، بل من مطرب وسيم ومن راقص رشيق ومن مؤدٍ مضحك، ولعلّ برنامج المواهب العربية اليوم يقدم سيركًا يشبه سيرك الرومان.
يتحدث "نيل بوستمان" في كتابه تسلية أنفسنا حتى الموت Amusing Ourselves to Death أن الرفاهية الزائفة لا تفعل كما يفعل السجان في ضرب السجين للتنازل عن قيمه، بل تصنع أيقونات من فنانين وأجهزة ووسائل ولذة ومتعة يدور حولها الشباب لتكون قيمًا بديلة، عندها لا حرج أن يذبح بلد بأهله وناسه ومقدساته ويستمتع جار له بالحفلات وعروض الترفيه.
سجن جديد بلا أبواب، لأنه موجود في كل تفاصيل الحياة، وإذا كان موت الجسد سمة الطريقة الأولى فإن موت المعنى والدين في النفوس سمة الثانية.
في أيام الرفاهية الزائفة يصبح صوت الدعوة ثقيلًا ومزعجًا لأنه يقطع على الناس متعتهم وتسليتهم، ولعل وصول الدعاة وصول ضعيف في زمننا، وهناك أسباب كثيرة لهذا، ربما تحتاج لجهود جماعية كبيرة لحلها، ولعل من أهم أسباب ضعف الدعوة ضعف أصحابها في فهم الإنسان الحديث والواقع المعقد الذي يعيشه.
كما أن الدعوة من عدة سنين تخاطب شرائح تشبهها في الغالب، وصوتها غير مسموع وغير مشاهد لدى شراح كثيرة في المجتمع، شرائح غير متدينة أو غير مهتمة بالشأن العام للمسلمين، فالمدارس الشرعية تستقطب أسرًا تشبهها، والمساجد تستقطب شبابًا من عائلات متدينة، وهكذا، والدعوة الإلكترونية قد تصل لشرائح أوسع لكن أثرها أضعف لأنها تفتقر للنشاط الاجتماعي الواقعي غير الافتراضي، فالحاضنة الاجتماعية هي التي تصنع الوعي والتربية الإيمانية.
الصورة لحفل غنائي حضره الآلاف في مصر، نعم، الحياة تستمر عادة لدى البشر حتى في ظل الحروب، لكن صناعة الاستقرار الزائف هو شيء آخر تمارسه الدول بمنهجية، فهو باب لتغييب للإنسان عن واقعه.